الاثنين، 23 أكتوبر 2017
الأربعاء، 29 مارس 2017
هدي الصحابة في علاج الإرهاب
هدي الصحابة في علاج الإرهاب
لقد واجه صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانهم تحديات الإرهاب والتطرف من قبل الفئات الضالة، وعاصروا ما حدث من تسلُّل الفكر التكفيري إلى بعض العقول وهم ليسوا بصحابة، وما جرهم ذلك إلى استحلال الدماء والأموال والأعراض، فوقفوا بالمرصاد لهذه المعتقدات الخطيرة والمواقف العدوانية.
وبذلوا الوسع في اجتثاث هذا الجزء الغريب عن جسد الأمة، فقام علماء الصحابة يحاجونهم بالكتاب والسنة، وينشرون المعتقدات السليمة التي تبين سماحة الإسلام ووسطيته، ويعلون القيم الحقيقية الأصيلة التي تحفظ على الأمة وحدتها واجتماعها واستقرارها.
ولم يزل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، يحاول ثني الخوارج عن باطلهم، ويحاورهم ويراسلهم ويناصحهم ويتلطف معهم في العبارات، كلُّ ذلك حقناً للدماء ولعلهم يرجعون إلى صوابهم، بل أرسل إليهم ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، الإمام المفسِّر الجليل، فناظرهم ودفع شبههم وأزال اللَّبس من أذهان المغرَّر به منهم، وحاجَّهم بأدلة الكتاب والسنة، ونَقَض زيف ما كانوا عليه من الغلو والتشدد والتكفير، فقد كان الصحابة، رضي الله عنهم، أرحم الناس بالخلق، وأحرصهم على هداية من ضلَّ الطريق.
ولعل قصة المناظرة المشهورة بين ابن عباس والخوارج من أهم المصادر التي يستلهم منها علاج الإرهاب والتطرف، حيث سنقف مع أربع فقرات منها لنعلق عليها بما يتيسر:
الفقرة الأولى: قول ابن
عباس رضي الله عنهما: «خرجتُ إليهم (أي إلى الخوارج)، ولبستُ أحسن ما يكون
من حُلَل اليمن، فأتيتهم وهم مجتمعون في دارهم، فسلَّمتُ عليهم، فقالوا:
مرحباً بك يا ابن عباس، فما هذه الحُلَّة؟ قال: قلت: ما تعيبون عليَّ؟! لقد
رأيتُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أحسنَ ما يكونُ من الحُلَل،
وقرأتُ قول الله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق}».
أراد هنا ابن عبَّاس رضي الله عنهما بفقهٍ دقيقٍ وحكمةٍ عاليةٍ أن يَلفت انتباه الخوارج بادئ ذي بدءٍ إلى أمر مهم، وهو أنَّ ما هم عليه من التنطُّع والغلو والتقشُّف المبالَغ فيه مجانِبٌ للصواب، وأن التجمُّل والتزيُّن وارتداء الحلل الجميلة لا ينافي الزهد الشرعي كما يتوهمون، ولهذا احتجَّ عليهم في ذلك بالنص القرآني والهدي النبوي، وذلك ليكسر من حدَّة الغلوِّ في نفوسهم، ويهيِّئهم لقبول الحق والرجوع عن تشددهم، فإن أساس شبهتهم من جهة الغلوِّ والتشدُّد، فيكون ذلك كالتوطئة بين يدي المناظرة.
الفقرة الثانية: قول ابن عباس، رضي الله عنهما، في وصف الخوارج: «دخلتُ على قومٍ لم أر قطُّ أشدَّ منهم اجتهاداً، جباههم قَرِحَةٌ من السجود، وأياديهم كأنها ثَفِنُ الإِبل (أي أنَّ جلود أكفِّهم غَلُظَت من طول السجود كغلظ رُكَب الإبل)، وعليهم قُمُصٌ مُرَحَّضة (أي باليةٌ من كثرة الاستعمال والغسل)، مُسَهَّمةٌ وجوههم (أي متغيِّرٌ لون وجوههم) من السهر».
وهنا يبيّن لنا ابنُ عبَّاس، رضي الله عنهما، في هذه الفقرة ما كان عليه الخوارج من شدة العبادة والزهادة، وأنهم بسبب ضعف حصيلتهم العلمية وقلة تفقُّههم في الدين وابتعادهم عن علماء الصحابة الربانيين واغترارهم بقرَّائهم الذين جهلوا حقائق الدين، بسبب ذلك وقعوا في الغلو في التعبُّد، والتشدد في الدين، وتبنِّي آراء متطرفة أودت بهم إلى التكفير وسل السيوف الظالمة باسم الإسلام زوراً، وفي ذلك تنبيهٌ لكلِّ عاقل لئلاَّ يغترَّ من أحدٍ بكثرة العبادة والتقشُّف ورفع الشعارات الرنانة ما لم يكن على جادة الكتاب والسنة.
الفقرة الثالثة: قول ابن عباس، رضي الله عنهما، للخوارج: «أتيتكم من عند صحابة النبي، صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار، لأبلِّغكم ما يقولون، فعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بالوحي منكم، وليس فيكم منهم أحد».
وهنا ينبّه ابن عبَّاس، رضي الله عنهما، الخوارج إلى فضل الصحابة، رضي الله عنهم، ولزوم اتباعهم، وأن التشدد الذي عليه الخوارج أمر دخيل على الإسلام، ومخالفٌ لهدي الصحابة، رضي لله عنهم، ولهذا دلّل على كون فكر الخوارج دخيلاً بأنه ليس فيهم من الصحابة أحد، فكأنه يقول لهم: ألا تدلُّ مخالفتكم لمن هو أعلم وأتقى وأورع منكم ومن زكاهم الله ورسوله على أنكم مخطئون ضالون؟!
الفقرة الرابعة: قول ابن عباس، رضي الله عنهما، للخوارج : «أرأيتم إن قرأتُ عليكم من كتاب الله ومن سنة نبيِّه، صلى الله عليه وسلم، ما يردُّ به قولَكم أترضون؟».
وفي هذه الفقرة تنبيهٌ لحملة العلم الشرعي ليتسلَّحوا بأدلة الكتاب والسنة، ويردوا بها الشبهات المضلِّلة، فإن الخطاب الديني المنحرف لا يُدمغ إلا بالخطاب الديني القويم.
ثم بدأت المناظرة بين ابن عباس، رضي الله عنهما، والخوارج، فكانوا يعرضون شبهاتهم، وكان يفنِّدها بالعلم الشرعي الدامغ الذي لا مدفع فيه من الحجة كما يقول الحافظ ابن عبد البر، رحمه الله، حتى رجع من الخوارج فئةٌ كثيرةٌ من المغرَّر بهم والمخدوعين، جاء في روايةٍ أنهم ألفان، وفي روايةٍ أخرى أنهم أربعة آلاف، كلُّهم تائب، وبقيت باقيةٌ من الذين عاندوا وكابروا.
فماذا فعل هؤلاء؟ وكيف تعامل معهم عليٌّ رضي الله عنه؟ وما هي الدروس المستخلصة من ذلك؟ هذا ما سنتحدث عنه في المقال القادم بإذن الله تعالى.
الاثنين، 16 مايو 2016
دروس وحلقات في التوحيد 3 (معنــــــــــى شــــهادة لا إلـــه إلا الله)
معنــــــــــى
شــــهادة : (لا إلـــه إلا الله)

كــتــــــــــــبه:
أبو عمار علي الحذيفي.
المقدمـة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه هي الحلقة الثالثة من (دروس في التوحيد) وهذه الحلقة نتكلم فيها عن أعظم الشهادتين وهي: (لا إله إلا الله) وستتبعها بإذن الله الشهادة الأخرى، ويتكون هذا البحث من عدة فصول:
الفصل الأول: فضل هذه الكلمة، ويتكون من عدة مباحث:
المبحث الأول: فضل هذه الكلمة.
المبحث الثاني: شرط الانتفاع بهذه الكلمة.
الفصل الثاني: معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ويتكون من عدة مباحث:
الأول: معنى الإله في لغة العرب.
الثاني: سبب تقدير خبر (لا) النافية للجنس بـ (حق).
الثالث: ركنا هذه الشهادة.
الرابع: المفهوم الصحيح للعبادة.
الفصل الثالث: شروط لا إله إلا الله، ويتكون من عدة مباحث:
الأول: مقدمة في معنى هذه الشروط وعددها.
الثاني: بيان هذه الشروط.
الثالث: الصفات العامة في هذه الشروط.
الفصل الرابع: نواقض لا إله إلا الله، ويتكون من عدة مباحث:
الأول: معنى الناقض.
الثاني: ثمرة ذكر هذه النواقض.
الثالث: سبب حصرها بعشرة.
الرابع: أحكام المرتد إجمالاً.
الخامس: ذكر هذه النواقض.
السادس: الفرق بين المكره وغيره.
نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياكم عليها حتى نلقاه، وأن يحشرنا وإياكم مع أهلها العاملين بها، والداعين إليها، والمحبين لها، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.
شــــهادة : (لا إلـــه إلا الله)

كــتــــــــــــبه:
أبو عمار علي الحذيفي.
المقدمـة:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فهذه هي الحلقة الثالثة من (دروس في التوحيد) وهذه الحلقة نتكلم فيها عن أعظم الشهادتين وهي: (لا إله إلا الله) وستتبعها بإذن الله الشهادة الأخرى، ويتكون هذا البحث من عدة فصول:
الفصل الأول: فضل هذه الكلمة، ويتكون من عدة مباحث:
المبحث الأول: فضل هذه الكلمة.
المبحث الثاني: شرط الانتفاع بهذه الكلمة.
الفصل الثاني: معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ويتكون من عدة مباحث:
الأول: معنى الإله في لغة العرب.
الثاني: سبب تقدير خبر (لا) النافية للجنس بـ (حق).
الثالث: ركنا هذه الشهادة.
الرابع: المفهوم الصحيح للعبادة.
الفصل الثالث: شروط لا إله إلا الله، ويتكون من عدة مباحث:
الأول: مقدمة في معنى هذه الشروط وعددها.
الثاني: بيان هذه الشروط.
الثالث: الصفات العامة في هذه الشروط.
الفصل الرابع: نواقض لا إله إلا الله، ويتكون من عدة مباحث:
الأول: معنى الناقض.
الثاني: ثمرة ذكر هذه النواقض.
الثالث: سبب حصرها بعشرة.
الرابع: أحكام المرتد إجمالاً.
الخامس: ذكر هذه النواقض.
السادس: الفرق بين المكره وغيره.
نسأل الله جل وعلا أن يثبتنا وإياكم عليها حتى نلقاه، وأن يحشرنا وإياكم مع أهلها العاملين بها، والداعين إليها، والمحبين لها، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.
الفصل الأول: فضل هذه الكلمة (لا إله إلا الله):
المبحث الأول: فضل هذه الكلمة:
كلمة: (لا إله إلا الله) هي كلمة التقوى، وهي العروة الوثقى، وهي كلمة الإخلاص، وهي الكلمة الطيبة التي جاء في فضلها الشيء الكثير في كتاب الله وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألف أهل العلم الكتب المطولة والمختصرة في فضلها، ونحن سنذكر هنا شيئاً مختصراً يناسب المقام، فنقول وبالله التوفيق:
1- لا إله إلا الله هي أعلى شعب الإيمان: لما رواه الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
قال حافظ الحكمي رحمه الله في "معارج القبول": (ويكفيك في فضل لا إله إلا الله إخبار النبي صلى الله عليه و سلم أنها أعلى جميع شعب الإيمان كما في "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "الإيمان بضع و سبعون أو بضع و ستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" الحديث، وهذا لفظ مسلم) أ.هـ
قلت: لفظة: (بضع وستون أو سبعون) ولفظة: (بضع وسبعون) كلاهما في مسلم، دون لفظة (بضع وستون) فهي في البخاري فقط.
2- أن الإتيان بها مخلصاً لله بها من أعظم أسباب الشفاعة: لمارواه البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة مرفوعاً: (أسعد الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصاً مخلصاً من قلبه).
قال ابن القيم في "مدارج السالكين": (وتأمل قول النبي لأبي هريرة وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله) أ.هـ
3- أنها أفضل الذكر:ثبت في "سنن الترمذي" و"سنن ابن ماجه" عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله) وهو في الصحيحة برقم: (1497).
4- من ختم بها حياته كان من أهل الجنة: لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه أبو داوود وغيره بسند حسن عن معاذ، وحسنه الشيخ في "الإرواء" (687).
قال ابن القيم في "الفوائد": (لِشهادة أن لا اله الا الله عند الموت تأثير عظيم فى تكفير السيئات وإحباطها، لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها، قد ماتت منه الشهوات، ولانت نفسه المتمردة، وانقادت بعد إبائها واستعصائها، وأقبلت بعد إعراضها، وذلت بعد عزها، وخرج منها حرصاً على الدنيا وفضولها واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته) أ.هـ المراد.
قال الحافظ في "فتح الباري": (والمراد بقوله: "لا إله إلا الله" في هذا الحديث وغيره كلمتا الشهادة، فلا يرد إشكال ترك ذكر الرسالة، قال الزين بن المنير: قول لا إله إلا الله لقب جرى على النطق بالشهادتين شرعاً) أ.هـ
5- أنها سبب عظيم في مغفرة الله ذنوب العبد إذا حقق هذه الكلمة: فقد روى الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجاء يوم القيامة برجل من أمتي على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر، ثم يقول الله تعالى له أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يارب، فيقول الله عز وجل: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يارب، فيقول الله تعالى: بلى إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك، فتخرجله بطاقة فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" فيقول يارب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقول: إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات فى كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة).
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (4/250): (وفي هذا المعنى ما ورد في فضل لا إله إلا الله وأنها تطفئ نار السيئات، مثل حديث البطاقة وغيره).
وقال ابن القيم رحمه الله: (فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض).
قال: (وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مدى البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب.
ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه).
6- أنها السبب في النجاة من الخلود في النار: لقوله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله) رواه الشيخان عن أنس.
والخلاصة أن فضائل هذه الكلمة كثيرة لا تحصى، فهي رأس الإسلام كله.
قال ابن القيم في "الجواب الكافي": (وهي كلمة لا إله إلا الله وهي التي ورثها إمام الحنفاء لأتباعه إلى يوم القيامة، وهي الكلمة التي قامت بها الأرض والسموات، وفطر الله عليها جميع المخلوقات، وعليها أسست الملة، ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد، وهي محض حق الله على جميع العباد، وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية، في هذه الدار، والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي النشور الذي لا تدخل الجنة إلا به، والحبل الذي لا يصل إلى الله من لم يتعلق بسببه، وهي كلمة الاسلام، ومفتاح دار السلام، وبها ينقسم الناس إلى شقي وسعيد، ومقبول وطريد، وبها انفصلت دار الكفر من دار الاسلام، وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان، وهي العمود الحامل للفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) أ.هـ
7- أنها أول شيء يسأل عنه العبد يوم القيامة كما قال تعالى: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون).
قال ابن القيم في "طريق الهجرتين": (والسؤال يوم القيامة عنها قال تعالى: "فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون" قال غير واحد من السلف هو عن قول لا إله إلا الله، وهذا حق، فإن السؤال كله عنها وعن أحكامها وحقوقها وواجباتها ولوازمها فلا يسأل أحد قط إلا عنها وعن واجباتها ولوازمها وحقوقها).
المبحث الثاني: شرط الانتفاع بهذه الكلمة:
1- فضل لا إله إلا الله مقيد بالعمل:
هذه الكلمة العظيمة لا ينتفع بها العبد بها إلا بقيود ثقيلة، فلابد أن يقولها قولاً مصحوباً بالعمل، وقد رويت أحاديث صحيحة فيها فضل (لا إله إلا الله) دون تقييدها بشيء، وقد ساق مسلم في "صحيحه" جملة كبيرة منها، ولكن اختلفوا في تفسيرها على أقوال:
1- فذهب جماعة من السلف رحمهم الله منهم سعيد بن المسيب والزهري وسفيان الثوري إلى أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي، وبه قال الآجري في "الشريعة" حيث قال: (فإن احتج محتج بالأحاديث التي رويت: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، قيل له: هذه كانت قبل نزول الفرائض، على ما تقدم ذكرنا له، وهذا قول علماء المسلمين، ممن نعتهم الله عز وجل بالعلم، وكانوا أئمة يقتدى بهم، سوى المرجئة الذين خرجوا عن جملة ما عليه الصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وقول الأئمة الذين لا يستوحش من ذكرهم في كل بلد، وسنذكر من ذلك ما حضرنا ذكره إن شاء الله تعالى).
2- وقال بعضهم معناها من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها، وهذا قول الحسن البصري.
3- قيل: إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة، ومات على ذلك وهذا قول البخاري.
وظاهر المذهب الأول أن هذه الأحاديث منسوخة، وهذا بعيد جداً فإن كثيراً منها كانت بالمدينة بعد نزول الفرائض والحدود وفي بعضها أنه كان في غزوة تبوك وهي في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً هذه الأحاديث ليست من أحاديث الأحكام التي تدخلها النسخ وإنما هي من أحاديث الأخبار التي لا يدخلها النسخ، وقد استبعد النسخ جماعة منهم القاضي عياض والنووي في "شرح مسلم"، والحافظ ابن رجب في "كلمة الإخلاص" وبعض المعاصرين.
ومنهم من يقول: هي محكمة ولكن ضم إليها شرائط، وهذا أجود الأقوال وهو الذي مال إليه ابن رجب الحنبلي، وهو لا ينافي ما ذهب إليه الآجري في "الشريعة".
وبالجملة فلم يذهب أحد إلى أن كلمة التوحيد تنجي من النار دون أن يكون معها عمل يصدقها كما ذهب إلى ذلك المرجئة.
2- هل تنفع المحتضر إذا أتى بها عند الاحتضار:
روى الشيخان واللفظ للبخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب: (يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله).
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك). فأنزل الله تعالى فيه "ما كان للنبي" الآية).
والشاهد من الحديث أن كلمة التوحيد هل تنفع في هذا المقام وهو مقام الاحتضار؟ أم أن أبا طالب مخصوص من هذا الحكم؟
هذا موضع اختلفت فيه آراء العلماء، قال الحافظ في"فتح الباري": (قال الكرماني: المراد حضرت علامات الوفاة، وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن، ويدل على الأول ما وقع من المراجعة بينه وبينهم انتهى.
ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة لكن رجا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه بخصوصه وتسوغ شفاعته صلى الله عليه وسلم لمكانه منه، ولهذا قال: "أجادل لك بها وأشفع لك" وسيأتي بيانه) أ.هـ
قلت: رجح الكرماني أن هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومال إليه الحافظ في "فتح الباري" وغيرهما، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد به قرب الاحتضار، منهم القاضي عياض ونقله عنه النووي في "شرح مسلم" مقراً له.
الفصل الثاني: معنى شهادة أن لا إله إلا الله:
هذه الشهادة لها معنى عظيم تحمله ومدلول كبير دلت عليه، ومن المهم معرفة معناها ومدلولها لأنه الغاية والمقصود، فالأحرف والكلمات لا تراد لذاتها وإنما للمعاني التي تحمله، ولأن فهم معناها تترتب عليه مسائل كثيرة منها سلامة المسلم ووقايته من أسباب الردة والكفر، ومنها فهم العبد للتوحيد المطلوب تحقيقه، فلذلك حرصنا على معرفة هذه الكلمة وبيان معناها على الوجه اللائق بها بحسب علمنا، فنقول وبالله التوفيق: (لا إله إلا الله) معناها لا معبود بحق إلا الله، أي: لا معبود يستحق العبادة غير الله سبحانه وتعالى، مهما علت منزلة هذا الغير، ولو كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو رجلاً صالحاً أو غير ذلك لا يستحق شيئاً من العبادات ولو شيئاً يسيراً.
وهذه الكلمة دلت على توحيد الألوهية بدلالة المطابقة كما ترى.
ولن تتكون عند القارئ صورة واضحة عن المعنى اللغوي لهذه الكلمة وكيف أخذ العلماء هذا المعنى حتى يعرف ألفاظ هذه الكلمة لفظاً لفظاً، لذلك أفردنا كل مسألة بمبحث خاص لتتضح الصورة.
المبحث الأول: معنى الإله في لغة العرب:
الإله في لغة العرب هو: المعبود وهذا ما دلت اللغة العربية، فقد قال الفيروز آبادي في "القاموس المحيط" (ص1242): (أله إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة ... والتأله التنسك والتعبد، والتأليه التعبيد) أ.هـ
وعلى هذا سار أئمة اللغة في كتبهم واتفقوا على أن الإله: هو المعبود، ومنه قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) أي: في السماء معبود، وفي الأرض معبود، وإذا فهمنا معنى الآية استطعنا أن نفهم تلبيس الصوفية على عوام الناس حيث زعموا أن هذه الآية فيها دليل على أن الله في كل مكان، وجوابه واضح ولله الحمد.
ونعود إلى موضوعنا فنقول: قال الشيخ سليمان بن عبد الله في "تيسير العزيز الحميد" (ص76-77): (وقال الطيبي: الإله: فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتوب من أله أي: عبد عبادة وهذا كثير جداً في كلام العلماء وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود).
وقد نقل عنه هذا الإجماع صاحب "فتح المجيد" وأقره.
وهذا الذي ذكره أهل العلم قد خالفه الأشاعرة ومنهم القبورية، حيث ذهبوا إلى أن الإله هو القادر على الاختراع، ففسروا كلمة التوحيد بغير ما تقتضيه لغة العرب، فأدى ذلك إلى مفاسد كثيرة منها أن من صرف شيئاً من العبادات لغير الله فإنه لم ينقض كلمة التوحيد ولم يفسدها، وأن من أقر بأن الله هو الخالق فقد دخل في الإسلام.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله في "تيسير العزيز الحميد" (ص76-77): (وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود، خلافاً لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات، ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى، ولو فعلوا ما فعلوا من عبادة غير الله كدعاء الأموات، والاستغاثة بهم في الكربات، وسؤالهم قضاء الحاجات، والنذر لهم في الملمات، وسؤالهم الشفاعة عند رب الأرض والسموات إلى غير ذلك من أنواع العبادات) أ.هـ
أقول: وتفسير هذه الكلمة بمعنى القادر على الخلق أو القادر على الاختراع تفسير باطل لأن هذا خلاف ما قاله أهل اللغة، ولأن شهادة التوحيد لو كانت بمعنى الإقرار بأن الله قادر على خلق الأشياء من العدم، لما تردد المشركون من أن يقولوا هذه الكلمة لحظة واحدة، فقد أقروا بأن الله خالق السموات والأرض كما تقدم معنا في الدروس السابقة.
والإله في القرآن له معنيان أحدهما: المعبود مطلقاً ولو بباطل، ومنه قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له فإنما حسابه عند ربه).
والثاني: المستحق للعبادة، ومنه مخاطبة الرسل لأممهم: (يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره) أي: مالكم من مستحق للعبادة غيره، وليس المقصود مالكم من معبود آخر ولو بالباطل، فإن لهم أصناماً يعبدونها من دون الله، ومنه قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد) ونحو ذلك من الآيات.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (16/575): (لفظ الإله يراد به: المستحق للإلهية، ويراد به ما اتخذه الناس إلهاً و إن لم يكن إلهاً في نفس الأمر) أ.هـ
المبحث الثاني: سبب تقدير خبر (لا) النافية للجنس بـ (حق):
ينبغي أن يعرف أن (لا) النافية للجنس تحتاج إلى اسم وخبر، وقولنا: (لا إله إلا الله) ذكرنا فيه الاسم دون الخبر فاحتجنا إلى تقدير الخبر لتكتمل الجملة، وشرط هذا التقدير أن يكون مناسباً ليستقيم المعنى ويكون متفقاً مع الآيات القرآنية وغيرها، فما كل تقدير يستقيم به المعنى، فوجدنا أن التقدير الوحيد الذي يستقيم به المعنى هو أن يقال: (لا إله بحق إلا الله)، وإذا كان الإله بمعنى المعبود - كما تقدم - كان المعنى: لا معبود بحق إلا الله.
على أن بعض العلماء كفضيلة الشيخ العثيمين رحمه الله يرى أن الأنسب أن يقدر الخبر: (حق) أي: بدون حرف الجر، لأن الكلمة مع حرف الجر ستكون متعلقة بخبر محذوف مقدر والأصل عدم التقدير، فيكون المعنى عنده: (لا معبود حق إلا الله) ونفسي إلى هذا أميل، والأمر في هذا سهل.
وقد قدره بعضهم بكلمة (موجود) فيكون المعنى: (لا معبود موجود إلا الله) وهذا التقدير غير صحيح لأمرين:
الأول: أن المعبودات الموجودة كثيرة فكيف يقال: لا معبود موجود إلا الله ؟! فأقل ما في هذا التقدير أنه يصادم الواقع الموجود فهو من الكذب.
الثاني: أن هذا القول فيه مدخل للحلولية والاتحادية، لأن قولنا: (لا معبود موجود إلا الله) يوهم أن هذه المعبودات هي الله كما يرى الحلولية والاتحادية، فكأننا نقول لا معبود يعبد إلا وهو الله نفسه، أو أن الله يحل فيه، وهذا غلط لأن الأصل في العبارات أن تكون واضحة ومفهومة وسالمة من أي مدخل لأهل الضلال والانحراف.
فاجتمع في هذا التقدير مخالفة شرع الله وواقع الناس، وانظر "الدرر السنية" (2/262).
المبحث الثالث: ركنا هذه الشهادة:
لهذه الشهادة ركنان كما ترى نفي وهو قولنا: (لا إله) وإثبات وهو قولنا: (إلا الله)، وهذان الجزءان تقوم عليهما شهادة التوحيد، إذ لا يمكن الاستغناء عن أحد هذين الجزأين.
قال ابن القيم في "بدائع الفوائد": (طريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالإثبات، فينفي عبادة ما سوى الله ويثبت عبادته، وهذا هو حقيقة التوحيد، والنفي المحض ليس بتوحيد وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمناً للنفي والإثبات وهذا حقيقة لا إله إلا الله) أ.هـ
وقد تقدم معنا أن الجزء الأول - وهو النفي - يحمل معنى الكفر بالطاغوت، والجزء الثاني - وهو الإثبات - يحمل معنى الإيمان بالله وبهما يطير طائر التوحيد، وإلا فلا.
والكفر بالطاغوت يتطلب خلع كل ما يناقض هذه الكلمة ويصادم معناها، فهناك من الناس من يحافظ على الصلاة لكنه قد يبقى متمسكاً بعقائد كفرية مثل النظرية الاشتراكية، ومثل هذا لم يكفر بالطاغوت، ومثله كمثل الذي كان يعبد الأصنام فلما دخل الاسلام أتى بالشهادتين فقيل له: وما ذا تقول في الصنم؟ فقال: "يقربني إلى الله" فمثل هذا لا ينفعه الإتيان بكلمة التوحيد، لأن كلمة التوحيد شرط القول فيها أن يرتبط بالعمل، وشرط العمل فيها أن يرتبط بالقول، فلا يستغني أحدهما عن الآخر.
الرابع: المفهوم الصحيح للعبادة:
هذا المبحث له تعلق كبير بهذا الفصل، لأن معنى كلمة التوحيد نفي الإلهية عما سوى الله تعالى، أي: نفي أن يكون غير الله مستحقاً للعبادة، وإثباتها لله تعالى وحده فقط، فما هي هذه العبادة ؟! وعلى ماذا تقوم ؟!
سنجعل الجواب في نقاط:
الأولى: أنه من الضروري ضبط العبادة وفهم معناها لما تترتب عليها من مسائل كثيرة من أهمها أنها الغاية التي لأجلها خلق الله الخلق، فكان من الضروري ضبطها لأن هذا من أعظم الأسباب الموصلة لتحقيق هذه الغاية.
فحقيقة العبادة أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وهذا تعريف شيخ الإسلام كما في "رسالة العبودية" وهو أحسن التعاريف وأجمعها.
وتطلق على الفعل كأن يصلي الرجل أو يصوم، وتطلق على المفعول وهي الصلاة نفسها أو الصوم.
ولقد نوعت الشريعة العبادة على مدار السنة، وجعلت المسلم يتقلب ما بين هذه الأنواع من نوع إلى آخر حتى لا يسأم من نوع واحد، ولتتنوع عبادته لله سبحانه وتعالى طوال السنة، فالصلاة واجبة في اليوم والليلة، والصيام في السنة مرة واحدة، والحج واجب في العمر مرة واحدة، ثم هو منتقل من الصيام إلى الصدقة إلى القيام إلى الاعتكاف إلى الحج إلى الذبح إلى غير ذلك.
وحقيقة العبادة أنها أوسع مما يراه بعض الناس، فبعض الناس يرى أن العبادة محصورة بالصلاة أو الزكاة أو نحوهما من العبادات المشهورة والمعروفة وهذا خطأ، فالعبادة أوسع من هذا بكثير إذ هي تضم في أكنافها كل قول أو عمل يحبه الله ويرضاه، فيدخل في ذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وبر الوالدين والإحسان إلى الجار وذكر الله وقراءة القرآن والصدق في الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وإطعام الطعام وإقراء السلام والتوكل والرهبة والرغبة والخشية والإنابة والخضوع والدعاء والاستعاذة والاستغاثة والذبح والطواف والنذر وغير ذلك.
الثانية: والعبادة لها شروط خاصة وعامة، أما الشروط الخاصة فهي الشروط التي تجب في كل عبادة لوحدها، فالصلاة لها شروط خاصة بها، وكذا الصيام والزكاة والحج ونحوها.
أما الشروط العامة فهي التي تجب في كل عبادة وهما شرطان اثنان لمن كان مسلماً، وثلاثة شروط لمن كان من غير المسلمين وهما:
الشرط الأول هو إخلاص العمل لله تعالى: لقوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) وقوله: (فاعبد الله مخلصاً له الدين) وغير ذلك من الآيات.
والشرط الثاني هو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته في القول والعمل: لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ولقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وهو في "الصحيح" من حديث عائشة.
الثالثة: والعبادة على مراتب كثيرة ودرجات متنوعة، وهي لا تنقطع أبداً كما سيأتي في (الناقض الثامن من نواقض الإسلام).
الرابعة: وللعبادة ثمار عظيمة على الفرد والمجتمع، أما الفرد فمن ثمارها محبة الله له لأنه أدى حق الله عليه، ومنها التحلي بلباس التقوى، ومنها أن يحي الحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، ومنها أن يحصل على الأجر العظيم والخير العميم.
وأما الثمار العظيمة التي يجنيها المجتمع فهي سعادته وأمنه وأمانه وحياته الطيبة وعيشته الهانئة ونزول الخيرات وزيادة البركات.
قاعدة مهمة في باب العبادة:
الشيء إذا ثبت أن الله يحبه ويرضاه بالأمر به، أو الثناء عليه وعلى أهله، أو ترتيب الأجر لمن فعله فهو عبادة، وعليه فيحرم صرفه لغير الله، وإذا صرف لغير الله فهذا من الشرك الذي نهى الله عنه، وتوعد أهله بالخلود في النار.
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في "كتاب التوحيد": (باب: من الشرك أن يستغيث بغير الله) قال صاحب "فتح المجيد": (وضابط هذا أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك).
ومن ذلك النذر فهو من أحب العبادات إلى الله تعالى، وقد أمر الله بالوفاء به حيث قال: (وليوفوا نذورهم) وأثنى الله على أهله حيث قال: (يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً) فهو من العبادات، وعلى هذا فصرفه لغير الله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تعالى، وغير النذر يدخل في ذلك وإنما سقنا النذر تمثيلاً لا تخصيصاً.
وهذه القاعدة تنفعنا في الرد على القبوريين الذين يسألون عن الدليل إذا قلنا لهم: إن صرف النذور لغير الله من الشرك الأكبر.
الفصل الثالث: شروط لا إله إلا الله:
الأول: مقدمة في معنى هذه الشروط وعددها:
والشرط – بسكون الراء - في اللغة: "إلزام الشيء والتزامه" ويجمع على شروط، وأما الشرط الذي بمعنى العلامة فهو بفتح الراء، ويجمع على أشراط.
والشرط اصطلاحاً: "ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ولا عدم لذاته"، والمعنى من ذلك أن الشرط إذا انتفى فسد العمل المشروط له، لأنه لا يُستغنى عنه البتة.
والشروط التي يشترطها العلماء للعمل في أي باب من الأبواب في الفقه أو غيره، تجتمع فيها عدة صفات أحدها: أنها من وضع الشارع، فهي ليست من وضع أحد من الناس، والثاني: أن هذه الشروط يتطلب اجتماعها كلها، فلا يستغنى بشرط عن شرط، والثالث: أن المطلوب من المكلف استصحابها من بداية العمل إلى آخره، وكلمة التوحيد المطلوب من العبد البقاء عليها حتى الممات، وهذا يعني البقاء على هذه الشروط حتى الممات.
واختلفوا في عدد شروط لا إله إلا الله، وسبب الخلاف أن بعضهم يراها متداخلة فيما بينها، وإلا فبالجملة هم متفقون على معاني هذه الشروط.
وهناك من أنكر سبب حصرها بهذا العدد فأدخل أشياء في هذه الشروط وهي عند التحقيق ليست شروطاً.
الثاني: بيان هذه الشروط:
وهذه الشروط سبعة عرفت بالاستقراء، وقد نص سلفنا على هذه الشروط بكلام مجمل فقد روى البخاري معلقاً في (كتاب الجنائز/ باب: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله) عن وهب بن منبه أنه سأله رجل: أليس (لا إله إلا الله) مفتاح الجنة ؟ فقال: بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك).
وقد جعلها بعضهم ثمانية بزيادة الكفر بالطاغوت، ولكن الصحيح أنه من الأركان لا من الشروط، لأنه يتعلق بتركيبة الكلمة نفسها، وعلى هذا فسنذكر سبعة شروط:
الشرط الأول: العلم بمعناها المنافي للجهل:
والدليل قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وفي حديث عثمان بن عفان: (من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة) رواه مسلم.
والعلم نوعان أحدهما: علم نظري معرفي كالعلم بالموجودات، والثاني: علم عملي بمعنى أنه لا يتم هذا العلم إلا بالعمل كالعلم بسائر العبادات ومنها الإتيان بالشهادتين، وقد أشار إلى هذا التفصيل الراغب في "المفردات".
فإن قيل: إن كثيراً من عوام الناس ينطق بهذه الشهادة دون أن يحيط بمعناها على الوجه المطلوب، فلا يعرف أن الإله هو المعبود، وأن لا النافية للجنس تحتاج إلى خبر فيقدر تقديراً مناسباً إلى غير ذلك مما تقدم، فكيف تقبل منه هذه الكلمة دون توفر الشرط وهو العلم ؟!
وأقول: إذا كان عوام الناس قد فهموا المعنى الإجمالي لكلمة التوحيد أي: أنه لا يستحق العبادة إلا الله، وأتوا بهذه الكلمة دون أن يصدر منهم ما يناقضها من الأقوال والأفعال فهي منهم مقبولة.
قال المقريزي في "تجريد التوحيد": (واعلم أن أنفس الأعمال وأجلها قدراً توحيد الله تعالى، غير أن التوحيد له قشران الأول: أن تقول بلسانك لا إله إلا الله، ويسمى هذا القول توحيداً، وهو مناقض للتثليث الذي تعتقده النصارى وهذا التوحيد يصدر أيضاً من المنافق الذي يخالف سره جهره، والقشر الثاني: أن لا يكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هذا القول، بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك والتصديق به، وهذا هو توحيد عامة الناس) أ.هـ
وقال الحافظ في "فتح الباري" (1/46): (فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود لصنم) أ.هـ
الشرط الثاني: اليقين بأنه المنافي للشك والريب:
قال تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا) وذم الله المنافقين فقال: (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون) وقال صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: (من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى بهما عبد ربه غير شاك فيهما إلا دخل الجنة) رواه مسلم عن أبي هريرة.
الشرط الثالث: الإخلاص المنافي للرياء:
قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وقال تعالى: (ألا لله الدين الخالص) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرَّم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة).
الشرط الرابع: الصدق المنافي للكذب:
والصدق مطابقة القول لما في الضمير كما في "المفردات" للراغب الأصفهاني.
ودليل اشتراط الصدق قوله تعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا: نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله، والله يعلم إن المنافقين لكاذبون) قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله صدقاً من قلبه دخل الجنة) رواه أحمد عن أبي موسى الأشعري.
والفرق بين الصدق والإخلاص هو ما قاله العلامة ابن القيم في "مدارج السالكين"(1/124): (وكذلك الصدق، والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوباً وطلباً فالإخلاص توحيد مطلوبه والصدق توحيد طلبه.
فالإخلاص أن لا يكون المطلوب منقسماً والصدق أن لا يكون الطلب منقسماً فالصدق بذل الجهل والإخلاص إفراد المطلوب) أ.هـ وانظر: "الدرر السنية" (2/295،131).
الشرط الخامس: المحبة لها المنافية للبغض:
قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله).
ويدخل في ذلك محبة العاملين بهذه الكلمة لأن ذلك من فروع هذه الكلمة.
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان": (فمحبته تعالى - بل كونه أحب إلى العبد من كل ما سواه على الإطلاق - من أعظم واجبات الدين وأكبر أصوله وأجل قواعده، ومن أحب معه مخلوقاً مثل ما يحبه فهو من الشرك الذي لا يغفر لصاحبه ولا يقبل معه عمل).
الشرط السادس: القبول لها بالقلب المنافي للرد:
القبول لما دلّت عليه هذه الكلمة من عبادة الله وحده ونبذ الشرك مع ما تقتضيه من الأمور، فمن قالها ولم يقبل عبادة الله وحده كان من الذين قال الله فيهم: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون).
وهناك من يعلم معنى الشهادة ولكنه يردها كبراً وحسداً، كحال أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين قال الله فيهم: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) وبين في موضع آخر سبب الكتمان فقال: (حسداً من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق).
الشرط السابع: الانقياد المنافي للاستكبار:
قال تعالى:(وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له)، وقال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) ومعنى قوله: (يسلم وجهه) أي ينقاد، ومعنى قوله: (فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي: بلا إله إلا الله.
والفرق بين القبول والانقياد هو أن القبول يكون باستسلام القلب وتصريح اللسان، والانقياد يكون باستسلام الجوارح لما تقتضيه هذه الشهادة.
الثالث: الصفات العامة في هذه الشروط:
هذه الشروط السبعة التي ذكرناها يجمعها عدة أمور، من أهمها أنها أعمال قلبية في الغالب، فالعلم واليقين والصدق والإخلاص والصدق والمحبة والانقياد والقبول كلها من أعمال القلوب إلا القليل مثل الانقياد ومثل العلم على التفسير الذي ذكرناه فإنه بمعنى العلم العملي.
ومن ذلك أنها أمور كلية تدخل تحتها جزئيات كثيرة، فبعضهم يرى أن الصلاة شرط صحة للتوحيد وآخر يرى أن التوكل كذلك إلخ ، وهذه الأمور كلها وغيرها من الأعمال داخلة في الانقياد، فلا حاجة لإفراد كل جزء بشرط مستقل.
الفصل الرابع: نواقض لا إله إلا الله:
الأول: معنى الناقض:
النواقض: جمع ناقض وهو لغة: ما يحل المربوط، واصطلاحاً: هو السبب الموجب للكفر بعد الإسلام.
وهذا يدل على إمكان وقوع الكفر بعد الإيمان وهو الصواب شرعاً وواقعاً، خلافاً لمن أنكره من القبوريين ومن جرى مجراهم، والأدلة التي تبطل هذا القول من الكتاب والسنة والإجماع أكثر من أن تحصر.
الثاني: ثمرة ذكر هذه النواقض:
ويحرص العلماء على بيان نواقض الإسلام وإيضاحها، ولهذا الأمر فوائد كثيرة أعظمها أن يخاف الإنسان على نفسه من هذه النواقض أن يقع فيها يوماً من الأيام، وأن نعلم أن وقوع الردة من المسلم شيء ممكن.
والردة: الكفر بعد الإسلام، وتترتب عليها أحكام كثيرة، وأشياء أخرى كثيرة هذه أهمها.
الثالث: سبب حصرها بعشرة:
ونواقض الإسلام كثيرة، ولكن قام بعض العلماء بحصرها بعشرة كما فعل الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب، ومن تبعه على ذلك كالشيخ عبد العزيز بن باز رحمهما الله وغيرهما.
وقد اختلفوا في سبب حصر الشيخ محمد لهذه النواقض بعشرة على أقوال كثيرة، فقيل: لأنها مجمع عليها، وهذا غير صحيح لأن هناك نواقض كثيرة مجمع عليها لم تذكر، وقيل: لأن هذه النواقض أصل النواقض وغيرها إنما ترجع إليها، وهذا غير صحيح لأن هناك من النواقض ما لا ترجع إلى هذه النواقض، وقيل: لأن هذه النواقض هي من أخطر النواقض على المسلم وأكثرها انتشاراً في عصر المؤلف وعصرنا، وهذا قاله بمعناه الشيخ عبد العزيز بن باز في نواقض الإسلام كما في "العقيدة الصحيحة وما يضادها" وهذا هو أحسن الأجوبة في نظري.
الرابع: أحكام المرتد إجمالاً:
وأرى من باب إتمام الفائدة أن نذكر هنا الأحكام المترتبة على الردة، وبيان نبذ مختصرة من أحكام المرتد في الإسلام ليعرف المسلم خطر هذه النواقض وليكون طالب العلم على بصيرة منها، فنقول وبالله التوفيق:
أولا: الـردة: هي الرجوع إلى الكفر بعد الإسلام نسأل الله الثبات على دينه، وتكون هذه الردة بارتكاب شيء من أسباب الكفر وموجباته، سواء كانت قولية كسب الله أو رسوله، أو فعليه كالسجود للصنم أو أن يدوس المصحف متعمداً، أو اعتقادية كاعتقاد أن الأديان واحدة أو أن القرآن ناقص أو بالشك كأن يشك في اليوم الآخر ونحو ذلك.
ثانياً: لا يعامل المرتد بأحكام الردة إلا إذا كانت ردته صحيحة، ونعني بها أنها توفرت فيها الشروط، وانتفت عنها الموانع.
وشروط صحة الردة هي: أولاً البلوغ فلا يحكم على الصبي بالردة، وثانياً العقل فلا يحكم على المجنون بالردة، ثالثاً الاختيار فلا يحكم على المكره بالردة، رابعاً الجهل جهلاً ناشئاً من عدم وصول العلم إليه كأن يكون في بادية بعيدة، وليس الجهل الناشئ من الإعراض فإن صاحبه لا يعذر به، والجهل عذر فلا يحكم على الجاهل بالردة.
ثالثاً: المرتد إذا صحت ردته وقامت عليه الحجة واستتيب فأبى أن يرجع نزلنا عليه أحكام الكافر وهي:
1- أنه لا يزوج بمسلمة بعد الردة، وإن كان مزوجاً بها أثناء الردة فسخ عقده منها، وقد اختلفوا فيما إذا ارتد قبل الدخول بها، فقول عامة أهل العلم أن العقد ينفسخ بمجرد الردة، واختار شيخ الإسلام أن العقد موقوف حتى تنكح زوجاً غيره، واختلفوا فيما إذا كانت الردة بعد الدخول على أقوال: فقيل ينفسخ العقد بمجرد الردة، وقيل: العقد موقوف إلى انقضاء العدة، وقيل: موقوف إلى أن تنكح زوجاً غيره وهو اختيار شيخ الإسلام كذلك، والأحوط في الحالتين اعتبار أن مجرد الردة سبب لفسخ العقد، فعلى المرتد إذا عاد إلى الإسلام وأراد زوجته أن يعيد العقد وإن لم تنقض العدة.
2- أنها لا تؤكل ذبيحته، وإن ارتد وصار نصرانياً أو يهودياً.
3- لا يدخل المسجد الحرام، والدليل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا).
4- لا يرث من أقربائه في حال حياته بعد ردته، ولا يرث منه أقرباؤه إذا مات أو قتل على قول عامة أهل العلم، واختار شيخ الإسلام أنه يورث لأن أقارب المرتدين في عصر أبي بكر في حروب الردة كانوا يرثون المرتدين بعلم الصحابة.
5- لا يتصرف في ماله حال ردته إلا إن عاد إلى الإسلام.
6- يقتل لحديث ابن عباس في "صحيح البخاري": (من بدل دينه فاقتلوه) ويقتله ولاة الأمور ضرباً بالسيف.
7- لا يغسل المرتد ولا يكفن ولا يدفن في مقابر المسلمين.
رابعاً: اختلف العلماء في استتابة المرتد هل يستتاب أو لا يستتاب؟ على قولين، وعلى الأول هل يجب أو يستحب، والصحيح أن استتابة المرتد مستحبة، إلا ممن تكررت ردته أو عظمت فمثله لا يستتاب، لأنه لا يؤمن وليكون عبرة لغيره.
خامساً: إذا أراد المرتد الرجوع إلى الإسلام فإنه يجب عليه أن يقر بما جحده من الأمور، فإن كان كفره بإنكار شيء متواتر ومعلوم من الدين بالضرورة وجب عليه أن يقر به، وإن كان كفره من جهة أنه أتى بقول باطل رجع عنه ونزع منه، وعليه أن يأتي بالشهادتين ويغتسل.
الخامس: ذكر هذه النواقض:
وهذه النواقض عشرة، سنذكرها مع بيان مختصر لمعانيها يساعد على فهم الطالب لهذه النواقض، فنقول وبالله التوفيق:
الناقض الأول: الشرك:
والشرك لغة هو: النصيب، ومنه قوله تعالى: (وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير).
والشرك شرعاً: هو "تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله"، وهو ينقض الإسلام بإجماع أهل العلم.
الناقض الثاني: اتخاذ الوسائط فيما بين العبد وبين الله
يعبدونهم من دون الله، ويسألونهم الشفاعة:
1- سئل شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ما تقولون في رجل يقول: لابد لنا من واسطة فيما بيننا وبين الله وآخر يقول: لا ينبغي أن تكون بيننا وبين الله واسطة فأجاب بالتفصيل حيث قال كما في "مجموع الفتاوى" (1/121-123): (إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله فهذا حق فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه وما أمر به وما نهى عنه وما أعده لأوليائه من كرامته وما وعد به أعداءه من عذابه، ولا يعرفون ما يستحقه الله تعالى من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعجز العقول عن معرفتها وأمثال ذلك إلا بالرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده.
وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة فى جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يكون واسطة فى رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك ويرجون إليه فيه فهذا من أعظم الشرك الذى كفر الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار) أ.هـ بتصرف.
2- وطلب الشفاعة من الموتى هو يأتي الإنسان إلى الميت المقبور يطلب الشفاعة منه فيقول: (اشفع لي عند الله يا فلان اشفع لي عند الله) كما هو حاصل وللأسف الشديد في كثير من قرى المسلمين اليوم، فبعض القرى عندهم في كل قرية قبر ولي يرجعون إليه عند الشدائد، ويسألونه تفريج الكربات، وقضاء الحاجات.
والسبب في أن طلب الشفاعة من الموتى شرك أكبر هو أن الشفاعة حق لله عز وجل، فلا تسأل الشفاعة إلا منه سبحانه وتعالى، قال سبحانه وتعالى: (قل لله الشفاعة جميعا) والجار والمجرور إذا قدما أفادا الحصر، فكأن الله يقول لنا: قل إن الشفاعة لله وحده لا شريك له، (قل لله) وحده (الشفاعة جميعاً) كل الشفاعة له وحده سبحانه وتعالى، فمن سأل الموتى الشفاعة عند الله عز وجل فكأنه يسأل الميت شيئاً خاصاً بالله عز وجل لا يقدر عليه غيره، ومن سأل المخلوق ما لا يقدر عليه إلا الخالق، فقد وقع في الشرك، فمن سأل الشفاعة من غير الله فكأنما دعا غير الله في ما لا يقدر عليه إلا الله.
3- وهنا سؤال قد يدور في ذهن بعض الإخوة: إذا كان القبوريون الآن يطلبون الشفاعة من الموتى لغرض غفران الذنوب، ولغرض أن يدخلوا الجنة، ولغرض أن يقيهم الله من النار، فهذا لأنهم يؤمنون باليوم الآخر، لكن مشركي قريش أصلا لا يؤمنون بجنة ولا يؤمنون بنار ولا يؤمنون ببعث ولا يؤمنون بنشور، فلماذا أصلا يطلبون الشفاعة من الأوثان ماذا يريدون من الله سبحانه وتعالى؟
قال العلماء: إنما يطلبون الشفاعة منهم لقضاء حوائجهم الدنيوية، فهم يذبحون وينذرون ويعظمون الأصنام لقضاء حوائجهم الدنيوية، فهم يطلبون من هذا الوثن النصر على العدو، ويطلبون منه أن يشفع لهم عند الله في رد غائبتهم وضالتهم، وقد يطلبون الشفاعة منهم عند الله من أجل أن يشفي مريضهم، من أجل أن يوسع أرزاقهم، من اجل أن يوسع ملكهم ونحو ذلك.
4- والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفية نفاها الله عز وجل في القرآن، وشفاعة أثبتها الله عز وجل.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (1/332): (فالشفاعة نوعان أحدهما: الشفاعة التى نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة وضلالهم وهي شرك.
والثاني: أن يشفع الشفيع بإذن الله وهذه التى أثبتها الله تعالى لعباده الصالحين، ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد قال: فأحمد ربى بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فإذا أذن له فى الشفاعة شفع لمن أراد الله أن يشفع فيه).
5- والناس من حيث الشفاعة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من ينكرها مطلقاً، فيقولون: لن تحصل شفاعة يوم القيامة مطلقاً، وهؤلاء هم الخوارج والمعتزلة أنكروا الشفاعة ولم يقروا إلا بأنواع قليلة من الشفاعة لا تخالف منهجهم.
القول الثاني: من يثبت الشفاعة يوم القيامة مطلقاً بدون شروط وقيود، وهؤلاء هم القبوريون وأيضاً النصارى وإن كنا نحن نتكلم عن الخلاف الواقع بين من ينتسب إلى هذه الأمة، ولكن النصارى يذهبون إلى هذا المذهب أي: أنه ستحصل شفاعة ولو بدون شروط.
والطائفة الثالثة: وقولها هو الحق قالوا: ستحصل شفاعة بشروط، فإقرارهم بالشفاعة خالفوا به الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا الشفاعة.
وقولهم: بشروط ردوا بذلك على الذين أطلقوها فقالوا: ستحصل بدون شروط وهو القبوريون وغيرهم.
فما هي شروط الشفاعة ؟! شروط الشفاعة هي:
أولا: أن يأذن الله بالشفاعة والشرط الثاني: أن يرضى الله عن الشافع والشرط الثالث: أن يرضى الله عن المشفوع له.
قال الله عز وجل: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) فأخبر سبحانه وتعالى بأنالشفاعة حاصلة بهذه الشروط: بالإذن وبالرضى عن الشافعوالرضى عن المشفوع، ولذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما يأتي الناس يوم القيامة يطلبون منه الشفاعة لا يذهب مباشرة ليشفع، إنما يأتي فيخر تحت العرش ويدعو الله عز وجل بمحامد وأدعية ثم يقال بعد ذلك: (ارفع رأسك وسل تعطى واشفع تشفع).
وهكذا قوله سبحانه وتعالى: (يومئذٍ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) وقال سبحانه وتعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) آية الكرسي ذكرت الإذن فقط مع أن الشروط ثلاثة لكن اقتصرت على الإذن لأنه أعظم الشروط.
وهذه الشروط لأن الشفاعة عند الله غير الشفاعة عند المخلوق، فيمكن للإنسان في الدنيا أن يشفع لشخص من أقربائه أو أصحابه بدون إذن، هذه هي الشفاعة عند المخلوق، لكن بالنسبة للخالق ما تحصل إلا بإذن الله لوجود الفرق العظيم بين الخالق والمخلوق، فإن المخلوق ضعيف، فالمدير أو الملك أو غيرهما إذا رد شفاعة هذا الصديق أو القريب، فإنه يخشى عليه أن يفتقده أو أن يضره أو أن يحقد عليه، أو أن يفقد مصالحه معه أو يحصل أشياء كثيرة جداً، لكن بالنسبة للخالق سبحانه وتعالى لا يحصل عليه ما يحصل على المخلوق من الضرر، لذلك منع سبحانه وتعالى الشفاعة عنده سبحانه وتعالى إلا بإذنه.
وهناك كلام لابن القيم رحمه الله تعالى يفرق فيه بين الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية، حيث قال رحمه الله في "إغاثة اللهفان": (فالشفاعة التي أبطلها الله شفاعة الشريك، فإنه لا شريك له، والتي أثبتها شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له ويقول: اشفع في فلان، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوه وخلصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذين ارتضى الله سبحانه وتعالى) أ.هـ
6- وعند القبوريين شبهة يقولون: نحن في الحقيقة ما نتخذ هؤلاء الموتى شفعاء لنا عند الله إلا لأن هذا من باب التأدب مع الله، لأن من سوء الأدب أن يدخل الشخص مباشرة على الملك، من دون أن يكون عند الباب حجاب، والحجاب جمع حاجب وهو الشخص الذي يكون عند الباب، ويسمى حاجباً لأنه يحجب الملك عن الناس، قالوا: فمن سوء الأدب أن الشخص يدخل على الملك مباشرة دون أن يطلب من الحجاب أن يتوسطوا له عند الملك، قالوا: وهكذا من سوء الأدب أن ندخل على الله مباشرة، لابد أن نجعل بيننا وبينه واسطة.
فرد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره فقال رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (1/126-128):
(فإن الوسائط التى بين الملوك وبين الناس يكونون على أحد وجوه ثلاثة: الأول: إما لإخبارهم من أحوال الناس بما لا يعرفونه، ومن قال إن الله لا يعلم أحوال عباده حتى يخبره بتلك بعض الملائكة أو الأنبياء أو غيرهم فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السر وأخفى لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء وهو السميع البصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
الوجه الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته ودفع أعدائه إلا بأعوان يعينونه، فلا بد له من أنصار وأعوان لذله وعجزه، والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل، قال تعالى: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير) وقال تعالى: (وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك فى الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً).
وكل ما فى الوجود من الأسباب فهو خالقها وربها ومليكها، فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه، بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم فى الحقيقة شركاؤهم فى الملك، والله تعالى ليس له شريك فى الملك، بل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
والوجه الثالث: أن يكون الملك ليس مريداً لنفع رعيته والإحسان إليهم ورحمتهم إلا بمحرك يحركه من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه ويعظمه أو من يدل عليه بحيث يكون يرجوه ويخافه تحركت إرادة الملك وهمته فى قضاء حوائج رعيته، إما لما حصل فى قلبه من كلام الناصح الواعظ المشير، وإما لما يحصل من الرغبة أو الرهبة من كلام المدل عليه، والله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وكل الأشياء إنما تكون بمشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وهو إذا أجرى نفع العباد بعضهم على بعض فجعل هذا يحسن إلى هذا ويدعو له ويشفع فيه ونحو ذلك، فهو الذى خلق ذلك كله وهو الذى خلق فى قلب هذا المحسن الداعي الشافع إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة) أ.هـ
وهناك شيء آخر وهو أن العلماء يقولون: إن الله سبحانه وتعالى أمر بالدعاء، وجعل الدعاء مفتوحا للعبد في أي وقت وفي أي ساعة من النهار أو من الليل، ولا يطلب سبحانه وتعالى من العباد الواسطة فيما بينه وبين العباد، ولذلك يقول العلماء: إن الله سبحانه وتعالى يذكر سؤال الناس ثم يعقبه بجواب فيه: (قل)، كقوله تعالى: (يسألونك عن المحيض قل هو أذى) وقوله: (يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً) وقوله: (يسـألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) وقوله: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير) وقوله: (يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير) وقوله: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) ونحو ذلك من الآيات، فما جاءت آية في القرانفيها (ويسألونك) إلا بعدها مباشرة (قل)، قالوا: إلا آية واحدةوهي آية الدعاء: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) ليس فيها (قل)، قال العلماء: لأن الله لا يريد من أحد أن يكون واسطة فيما بينه وبين عباده في باب الدعاء.
الناقض الثالث: من لم يكفر الكافر أو شك في كفره أو صحح مذهبه:
وهذا يدل على أن إخراج المسلم من الإسلام أمر خطير وعظيم، كما أن إدخال الكافر في الإسلام أمر خطير وعظيم، وهذا الناقض يدل عليه، وهذا الناقض أمر مجمع عليه كما ذكر القاضي عياض في كتابه: "الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى" (2/281)، فلا تستقيم عقيدة المسلم إلا بالشهادة على الكفار بالكفر، وهذه المسألة متفرعة من مسألة الولاء والبراء في هذا الدين.
والكافر المطلوب تكفيره والشهادة عليه بالكفر هنا هو الكافر المجمع على كفره، لأن الكافر قسمان:
الأول: مرتكب لكفر مجمع عليه، وبقاؤه على هذا الكفر معلوم ومعروف، فهذا يتنزل عليه هذا الناقض، والثاني: مرتكب لكفر هو محل نزاع بين العلماء ككفر تارك الصلاة ونحوه، فلا يتنزل هذا الناقض على من لم يكفر به.
قال سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز كما في "مجموع فتاوى ومقالات" (7/415): (ومن لم يكفر الكافر فهو مثله إذا أقيمت عليه الحجة وأبين له الدليل فأصر على عدم التكفير، كمن لا يكفر اليهود أو النصارى أو الشيوعيين أو نحوهم ممن كفره لا يلتبس على من له أدنى بصيرة وعلم) أ.هـ
أقول: وتكفير الكافر مخالف لمسألة وحدة الأديان تماماً، لأن تكفير الكافر مبني على أصل الولاء والبراء، ووحدة الأديان مصادمة لهذا الأصل، على أننا نقول إن وحدة الأديان لها معنيان:
الأول: أن الأديان كلها تؤدي إلى مصير واحد ومقصد واحد وهو طريق الله.
والثاني: أنها بمعنى دمج الأديان والخلط بينها، حتى تصاغ منها شعائر مأخوذة من هذه الأديان كلها.
ووحدة الأديان على المعنيين يعتبر كفراً مخرجاً من الإسلام، ولكن ينبغي التفريق بين قضية وحدة الأديان، وبين قضية حوار الأديان، فهذا راجع إلى مقصد صاحبه، لأني رأيت من يخلط بينهما.
الناقض الرابع: اعتقاد أن هدي غير رسول الله أكمل من هديه،
وحكمه أكمل من حكمه صلى الله عليه وسلم:
الهدي: هو الطريقة، والحكم: هو القضاء، واعتبر العلماء هذا ناقضاً من نواقض الاسلام لأن ذلك يستلزم تنقص الشرع، ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه وحي من الله.
وقد أوجب سبحانه وتعالى في كتابه الكريم التحاكم إلى الله عز وجل فقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) وقال: (أفحكم الجاهلية يبغون) وقال: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) وقال: (وما كان لمؤمن ولا مؤمن إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وقال: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً).
والتحاكم إلى الطواغيت مسألة خطيرة على إيمان العبد، ويدل على ذلك أن العلماء أدخلوها في كتب التوحيد وجعلوها من نواقض الإسلام بالشروط المعروفة.
والحكم بغير ما أنزل الله كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم، ولكن فيه تفصيل عند العلماء: فإن حكم بغير ما أنزل الله أو تحاكم إليه لأنه يراه أفضل من شرع الله أو على الأقل مساو له، أو أن شرع الله لا يصلح في هذا العصر، أو أنه يصلح ولكن القوانين أصلح منه وأنسب لهذا العصر.
والخلاصة أن الحكم بغير ما أنزل الله أو التحاكم إليه من كبائر الذنوب.
الناقض الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول ولو عمل به كفر،
لقوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم):
والشاهد من الآية أن من أبغض شيئاً من الشريعة فهو كافر لأن الله يحبط عمله، ولا يحبط الأعمال إلا ما كان كفراً كما قال تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين).
والحبوط في اللغة: هو السقوط، يقال: حبطت الناقة، أي: سقطت والتصق بطنها بالأرض، والمعنى الشرعي هو سقوط العمل الصالح وذهابه هباءً منثوراً.
واختلفوا فيما إذا كان هناك شيء تحبط به الأعمال غير الكفر، وأحسن من فصل في هذا هو العلامة ابن القيم حيث قال ما خلاصته: (الحبوط نوعان: عام وخاص، فالعام كحبوط الحسنات بالردة كلها، وحبوط السيئات كلها بالتوبة.
والخاص كحبوط السيئات والحسنات بعضها ببعض، وهذا حبوط مقيد جزئي.
قال: ولما كان الكفر والإيمان كل منهم يبطل الآخر ويذهبه كانت شعبة كل واحد منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر، فإن عظمة الشعبة أذهبت في مقابلتها شعباً كثيرة أ.هـ معنى كلامه رحمه الله، وانظر: كتابه: (الصلاة) وكتابه: (الوابل الصيب).
الناقض السادس: من استهزئ بشي من دين الرسول عليه الصلاة السلام أو ثوابه أو عقابه كفر، والدليل قوله تعالى: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم).
والاستهزاء هو اتخاذ الشيء هزواً، وهو نوعان: صريح: وهو استهزاء بالقول كمن نزلت فيهم هذه الآية، وغير صريح: وهو استهزاء بالفعل كالرمز بالعين وإخراج اللسان ومد الشفه وغيرها.
قال بعض العلماء: وهذا النوع بحر لا ساحل له، وهذا صحيح إذ كل يوم يظهر لنا من طرق الاستهزاء بالدين وشعائره وأهله ما لا نعرفه، كالاستهزاء بطريقة النكت المصورة والتي تسمى بـ"الكاريكاتير" وغيرها.
والاستهزاء كفر بالله مخرج من الاسلام بدون خلاف كما ذكر غير واحد منهم ابن العربي المالكي في "تفسيره" عند الآية، لأنه ينافي ما ينبغي على العباد من التعظيم والإجلال لشرع الله.
وذكر ابن قدامة وغيره أن المستهزئ والهازل إذا ارتدا عن الدين ثم رجعا إلى الدين بعد الاستتابة، فلابد من تعزير ولي الأمر لهما بما يراه صالحاً لتأديبهما. (ينظر حاشية الروض المربع: باب المرتد).
وننبه إلى أن المستهزئ لا ينبغي القعود معه في مجلس واحد لقوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم).
الناقض السابع: السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به فقد كفر، والدليل قوله تعالى:
(وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر):
1- السحر لغة: هو ما خفي ولطف ودق مأخذه، وشرعاً: هو عزائم ورقى وعقد تؤثر في الأبدان والقلوب، فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه، ويأخذ أحد الزوجين عن صاحبه.
2- وتحريم الشريعة للسحر ومحاربتها لأهله والمشتغلين به، وسد الأبواب عليه حتى تمنع انتشاره وتعلمه، هو من حكمة الشريعة ومحافظتها للنفوس والعقول والأعراض، فإن الشريعة تحافظ على الضروريات الخمس وهي: الدين والعقل والعرض والمال والنفس، والشيء الغريب الذي يظهر لنا حقيقة السحر أنه يجني على هذه الأشياء كلها.
3- والسبب في دخول السحر في أبواب التوحيد هو ما قاله الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي في "القول السديد" (ص106): (السحر يدخل في الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم وربما تقرب إليهم بما يحبون ليقوموا بخدمته ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في علمه وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك، وذلك من شعب الشرك والكفر).
4- طريقة تعلم السحر:
يطلب الجن من الساحر - إذا وجدوا منه الرغبة في تعلم السحر - أن يشرك بالله عز وجل كأن يسجد لهم أو للأصنام أو يذبح لهم أو يطوف حول شيء أو يدوس لمصحف بقدمه أو يكتب آيات قرآنية بدم الحيض أو يكتبها على أسفل قدمه ثم يدخل بها الحمام أو غير ذلك من أنواع الكفر، ثم تقوم الجن بخدمته إذا تيقنوا كفره.
5- والسحر دخل في أبواب كثيرة لا يتنبه لها الناس، منها دخوله في باب تحضير الأرواح، وأبواب عروضات السرك وغيرها، حتى أدخله كبار الصوفية في تعاملهم مع غيرهم من الأتباع تخويفاً لهم من ذكر بعض أسرارهم كما اعترف بعضهم بذلك، وخدمة لهم في صناعة الخوارق ونحوها.
6- وقد اختلف العلماء: هل للسحر حقيقة ؟! على قولين لأهل العلم، فذهب أهل السنة إلى أن له حقيقة.
نقل النووي رحمه الله في "شرح مسلم" عن المازري أنه قال: (مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة، خلافا لمن أنكر ذلك في حقيقته).
وقال حافظ الحكمي في "معارج القبول": (وله تأثير فمنه ما يمرض ومنه ما يقتل ومنه ما يأخذ بالعقول ومنه ما يأخذ بالأبصار ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، لكن تأثيره ذلك إنما هو بما قدره القدير سبحانه وتعالى).
وخالفهم المعتزلة فقالوا: ليس للسحر حقيقة، واستدلوا بأن الله يقول: (سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) وقوله: (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى).
وأجاب أهل السنة بأن الله ذكر في السحر عالماً ومتعلماً، وشراً يستعاذ منه بالله ولو لم يكن للسحر حقيقة لما أمر الله بالاستعاذة منه.
ويمكننا أن نقول: إن السحر له حقيقة من حيث التأثير على البدن، والتفريق بين الرجل وزوجه، وتصيير الشخص يكره الشيء بعد محبته له، ويحبه بعد بغضه له، وليس له حقيقة من حيث تقليب الأشياء، فالساحر لا يصير الذهب تراباً، ولا التراب ذهباً، ولا الإنسان حيواناً، ولا العكس.
وهذا التفصيل هو أجود ما قيل، وهو قول جماعة منهم الشيخ العثيمين رحمه الله وغيره.
7- حكم من تعلم السحر:
من علم السحر أو تعلمه فهو كافر لقوله تعالى: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت) وقوله تعالى: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) وغير ذلك من الأدلة.
ويستثنى هاروت وماروت من هذا الحكم فلا يكونان كافرين وإن علما السحر لأن خلقهما فتنة لعباده.
وأما القصة التي جاءت في ذكر هذين الملكين من أن الله أنزلهما ثم ارتكبا الفاحشة في امرأة ثم مسخهم كوكبين ثم عاقبهما بأن حبسهما في بابل فهذه قصة باطلة.
وقد اختلفوا في حقيقة الملكين على أقوال والصحيح أن هاروت وماروت هما ملكان كريمان أنزلهما الله فتنة لعباده، ولله تعالى أن يختبر عباده ويمتحنهم بما شاء، ولا منازع له في قضائه وشرعه، وهو اختيار شيخ المفسرين ابن جرير، ومن المعاصرين "اللجنة الدائمة" (1/25-26).
ونرى أنه من المناسب أن ننبه على أمرين يتعلقان بموضوعنا:
الأول: أن ابن حزم له قول كما في "المحلى" (2304) ذهب فيه إلى أن الساحر ليس كافراً، ونفى أن يقتل ردة، مخالفاً بهذا من قبله ومن بعده، وقد تكلف تكلفاً واضحاً في نفي دلالة الأدلة على كفر الساحر.
الثاني: كلام للقرضاوي في رسالته: "حقيقة التوحيد" إذ يقول في هذا الكتاب إن السحر من الشرك الأصغر، وهذا خطأ كبير ولاسيما والرجل ليس من أهل هذا الشأن ثم إنه غير مأمون فلا يؤخذ عنه، ولاسيما مثل دقائق الأمور هذه.
وأدلة كفر الساحر كثيرة، نذكر منها:
1- قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون0ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون)، ووجه الدلالة من الآية هي قوله: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا)، وأيضاً قوله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر)، وأيضاً قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) أي: نصيب، والذي ليس له في الآخرة نصيب هو الكافر، وأيضاً قوله تعالى: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون).
قال حافظ حكمي رحمه الله في "معارج القبول": (وهذا من أصرح الأدلة على كفر الساحر ونفي الإيمان عنه بالكلية، فإنه لا يقال للمؤمن المتقي ولو أنه آمن واتقى، إنما قال تعالى ذلك لمن كفر وفجر وعمل بالسحر واتبعه) أ.هـ
وقوله: (ولا يفلح الساحر حيث أتى) وقوله: (ولا يفلح الساحرون) والذي ينفى عنه الفلاح مطلقاً هو الكافر كما قال الله: (إنه لا يفلح الكافرون).
8- هل يكفر الساحر بدون تفصيل: جمهور العلماء على أن السحر كفر بذاته، وذهب الشافعي إلى أن السحر يستفصل فيه، فإن رأينا أنه من جهة الاستعانة بالجن والشياطين فهذا كفر، وإن رأينا أنه من جهة العقاقير والأعشاب والأدوية فهذا ليس بكفر، وهذا التفصيل هو أجود ما قيل والله أعلم.
9- توبة الساحر: إذا تاب من قبل أن يقدر عليه قبلناه وإلا فلا، وقد قال مالك: (إذا ظُهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه).
الناقض الثامن: مناصرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى:
(ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين):
هناك فرق بين التولي والموالاة، وكثير من الناس يخلط بينهما.
فالتولي: هو الذب عن الكفار وإعانتهم بالمال والبدن والرأي، وهو كفر مخرج من الدين، وقد قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة: (أي: موالاتهم في الدين، فإنه منهم في حكم الكفر).
وهذا القول والحكم فيما لو كان عن قناعة بمذهبهم فرضي بدينهم.
قال ابن جرير في "تفسيره" عند الآية: (يعني تعالى ذكره بقوله: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم، يقول: فإن من تولاهم ونصرَهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍ أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه، وصار حكُمه حُكمَه) أ.هـ
وزاد الطاهر بن عاشور الموضوع وضوحاً فقال في "تفسيره": (وقوله: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" (مَن) شرطية تقتضي أن كل من يتولاهم يصير واحداً منهم. جعل ولايتهم موجبة كونَ المتولي منهم، وهذا بظاهره يقتضي أنّ ولايتهم دخولٌ في ملّتهم، لأنّ معنى البعضية هنا لا يستقيم إلاّ بالكون في دينهم. ولمّا كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتّبع الرسول ولم ينافق كان مسلماً لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل، وقد تأوّلها المفسّرون بأحد تأويلين:
1- إمّا بحمل الولاية في قوله: (ومن يتولهم) على الولاية الكاملة التي هي الرّضى بدينهم والطعنُ في دين الإسلام، ولذلك قال ابن عطية: ومن تولاّهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر والخلود في النّار.
2- وأمّا بتأويل قوله: (فإنّه منهم) على التشبيه البليغ، أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب. قال ابن عطية: من تولاهم بأفعاله من العَضد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلال بالإيمان فهو منهم في المقت والمذمّة الواقعة عليهم أ.هـ
وهذا الإجمال في قوله: (فإنّه منهم) مبالغة في التحذير من موالاتهم في وقت نزول الآية، فالله لم يرض من المسلمين يومئذ بأن يتولوا اليهود والنصارى، لأن ذلك يلبسهم بالمنافقين، وقد كان أمر المسلمين يومئذ ي حيرة إذ كان حولهم المنافقون وضعفاء المسلمين واليهود والمشركون فكان من المتعين لحفظ الجامعة التجرد عن كل ما تتطرق منه الريبة إليهم.
وقد اتفق علماء السنة على أن ما دون الرضا بالكفر وممالاتهم عليه من الولاية، لا يوجب الخروج من الربقة الإسلامية ولكنه ضلال عظيم، وهو مراتب في القوة بحسب قوة الموالاة وباختلاف أحوال المسلمين) أ.هـ
قلت: وقصة حاطب بن أبي بلتعة تدل على هذا، فقد روى الشيخان عن علي رضى الله عنه قصة طويلة مشهورة، وفيها: (فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على ما صنعت) قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن يكون لى عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق، ولا تقولوا له إلا خيراً) فقال عمر إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه. فقال: (أليس من أهل بدر) فقال: (لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم" فدمعت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على ما صنعت) يدل على أن في المسألة تفصيلاً راجعاً إلى نية المسلم ومقصده، ولذلك استفصله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان قد صدر نوع موالاة كما نص على ذلك القرآن، حيث قال الله في أول "سورة الممتحنة": (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقال في آخرها: (يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم ..) الآية، وإن كان حاطب قد غفر الله لمزايا كثيرة وحسنات عظيمة، منها جهاده في غزوة بدر كما جاء في الحديث.
ويستثنى من هذا كله ما لو كانت الموالاة بسبب الخوف والتقية فصاحبه معذور لقوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة).
فالآية ترخص عند الخوف في موالاة الكفار في الظاهر إذا خافهم خوفاً يعذر به، وهي كالمداراة التي يقي نفسه بها منهم، وشرط ذلك سلامة الباطن.
محبة الكافر والدعاء له:
ومحبة الكافر فيها تفصيل فلا تعد حراماً على الإطلاق، فإن كان يحبه محبة رحمة لصلته به ولقرابته منه فهذا لا بأس فيه خلافاً لمن منع من ذلك، وقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب ولذلك قال الله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت).
وقد ذهب من منع من محبة الكافر مطلقاً إلى تأويل هذه الآية فقالوا: معنى الآية إنك لا تهدي من أحببت هدايته، وهذا غير صحيح لأن الأصل عدم التقدير، والصحيح هو أن الآية تعني محبة النبي صلى الله لقرابته ولكن محبة طبيعية، وقد تكون محبة شهوة كمحبة الرجل لزوجته أو أمته الكتابية.
فإذا لم تكن لنحو ذلك فالأصل أنه حرام، إذ الواجب بغضه وكرايته لأنه مشاقق لله ورسوله، وهذا من أعظم أبواب الإيمان لأنه من الولاء والبراء.
ومن ذلك الدعاء للكافر فإنه إن كان من باب الدعاء له بالهداية والدخول في الإيمان، أو الدعاء له بالعافية والشفاء فليس في ذلك بأس، وإن كان من الدعاء له بالمغفرة والعفو فذلك حرام بالإجماع ولاسيما بعد موتهم.
قال النووي في "المجموع": (وأما الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة فحرام بنص القرآن والإجماع).
الناقض التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين):
والشاهد من الآية أن من خرج عن شريعة الإسلام فهو كافر، ومن قال: إن بعض الناس يجوز لهم الخروج عن شريعة الإسلام فهو مكذب بالنصوص، ومنها النص السابق.
وغلاة الصوفية يعتقدون أن الإنسان يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، كما خرج الخضر عن شريعة موسى عليهما السلام.
والجواب: من وجهين ذكرهما شيخ الإسلام في أكثر من موضع من كتبه.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (13/266): (وقد يحتج بعضهم بقصة موسى والخضر ويظنون أن الخضر خرج عن الشريعة فيجوز لغيره من الأولياء ما يجوز له من الخروج عن الشريعة، وهم فى هذا ضالون من وجهين أحدهما: أن الخضر لم يخرج عن الشريعة، بل الذي فعله كان جائزاً فى شريعة موسى، ولهذا لما بين له الأسباب أقره على ذلك، ولو لم يكن جائزاً لما أقره ولكن لم يكن موسى يعلم الأسباب التي بها أبيحت تلك فظن أن الخضر كالملك الظالم فذكر ذلك له الخضر.
والثاني: أن الخضر لم يكن من أمة موسى ولا كان يجب عليه متابعته) أ.هـ
ولعلهم يستدلون كذلك بقوله تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) وهو استدلال مردود على صاحبه لعدة أمور:
1- أن الشريعة تراعي الاستمرارية والمداومة في العبادة فقد قال تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) وقوله: (والذين هم على صلاتهم دائمون) وقوله: (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) وهذا القول الذي ذكروه يناقض ما ذكرناه.
2- أن قولهم هذا يلزم منه القول بأن الرسول لم يصل إلى هذه المرتبة العالية - التي زعموها – ولا صحابته، فهم أفضل من رسول الله ومن صحابته.
3- أن اليقين هنا بمعنى الموت، وقد قال تعالى: (قالوا: لم نك من المصلين0ولم نك نطعم المسكين0 وكنا نخوض مع الخائضين0 وكنا نكذب بيوم الدين0حتى أتانا اليقين) أي: الموت.
4- إذا كان اليقين هنا بمعنى مرتبة أو منزلة فما هو ضابط هذه المنزلة ؟ وكيف يعرف الإنسان أنه وصلها وأنه سقطت في حقه التكاليف ؟! إذ قد يدعي ذلك أي إنسان.
الناقض العاشر: الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به:
والمراد بهذا الناقض هو الإعراض عن تعلم أصل الدين الذي يكون به المرء مسلماً من التوحيد والشهادتين.
قال ابن القيم في "مدارج السالكين" (1/366-367): (وأما كفر الإعراض: فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه ولا يصغي إلى ما جاء به البتة).
وقال في "مفتاح دار السعادة" (1/94): (كفر إعراض محض لا ينظر فيما جاء به الرسول ولا يحبه ولا يبغضه ولا يواليه ولا يعاديه بل هو معرض عن متابعته ومعاداته).
المبحث السادس: هل هناك فرق بين المكره وغيره ؟
هذه النواقض لا فرق فيها بين الهازل والجاد، والخائف إلا من وصل إلى درجة المكره، فليس كل خائف مكره قال تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ولا فرق بالإكراه بالقول أو الفعل، لأن الآية عامة ومن فصل بينهما لم يأت بحجة قوية تصلح للتمسك بها، وهذا هو الصحيح في المسألة وهو قول الجمهور واختيار شيخ الإسلام.
قال رحمه الله في "الفتاوى الكبرى" (1/56): (وأما إذا أكره الرجل على ذلك بحيث لو لم يفعله لأفضى إلى ضربه أو حبسه أو أخذ ماله أو قطع رزقه الذي يستحقه من بيت المال ونحو ذلك من الضرر فإنه يجوز عند أكثر العلماء، فإن الإكراه عند أكثرهم يبيح الفعل المحرم كشرب الخمر ونحوه وهو المشهور عن أحمد وغيره، ولكن عليه مع ذلك أن يكرهه بقلبه ويحرص على الامتناع منه بحسب الإمكان، ومن علم الله منه الصدق أعانه الله تعالى وقد يعافى ببركة صدقه من الأمر بذلك.
وذهب طائفة إلى أنه لا يبيح إلا الأقوال دون الأفعال ويروى ذلك عن ابن عباس ونحوه قالوا: إنما التقية باللسان وهو الرواية الأخرى عن أحمد).
ضابط المكره عند الحنابلة:
قال شيخ الإسلام كما في "الفتاوى الكبرى"(5/489): (تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد ولا يكون الكلام إكراهاً) أ.هـ
شروط الإكراه:
يذكر الفقهاء شروطاً للإكراه ينبغي اعتبارها احترازاً من التوسع في دعوى الإكراه، وهذه الشروط هي كما ذكرها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وغيره:
1- أن يكون من يهدد قادراً على فعل ما يهدد به، وأن يكون المأمور عاجزاً عن الدفع أو الفرار.
2- أن يكون ما يهدد به فورياً فإن قال إن لم تفعل كذا فسأقتلك بعد شهر أو نحوه فلا يعد مكرهاً.
3- أن يغلب على ظن المأمور أنه إن امتنع وقع به ما يهددونه.
4- أن يفعل الشيء المحرم بقدر الإكراه، وهو ما يسميه الفقهاء: بقاعدة: (الضرورة تقدر بقدرها) فلو أجبره على أن يسجد لصنم سجدة، فلا يحل له أن يسجد له سجدتين، أو أن يأكل نصف رغيف في نهار رمضان فلا يحل له أن يأكله كله.
أحوال المكره:
يختلف حال المكره من شخص إلى آخر:
1- فتارة يكون الصبر في حقه أفضل وهذا هو الأصل، فقد روى البخاري في "صحيحه" عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له فى ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
والشاهد منه أن النبي ذكر ذلك في سياق الثناء على من صبر على العذاب والأذى في سبيل الله.
2- وأحياناً يكون الصبر واجباً في حق المكره إذا كان عالماً يخشى من أن يقتدي به الناس في هذا الكفر، ولذلك صبر أحمد بن حنبل في محنته المشهورة محنة القول بخلق القرآن.
3- وأحياناً قد يكون النطق بكلمة الكفر مع الطمأنينة بالإيمان أفضل إذا كان عالماً يحتاجه الناس ولا يخشى من تأثرهم بما يقوله.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
انتهت الحلقة الثالثة من (دروس في التوحيد)،
وسيتبعها بإذن الله الحلقة الرابعة في (شرح معنى شهادة أن محمداً رسول الله).
كتبه: أبو عمار علي الحذيفي.
عدن / اليمن
رجب / 1430 هـ
الجمعة، 6 مايو 2016
دروس وحلقات في التوحيد 2 (حقيــــــــــقة التوحـيد الذي بعث الله به الرسل)
حقيــــــــــقة التوحــــــــــــــــــيد
الذي بعث الله به الرسل
الذي بعث الله به الرسل

كتبه:
أبو عمار علي الحذيفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فهذه هي الحلقة الثانية من (دروس في التوحيد) نـتكلم فيها عن "حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرسل". وتتكون هذه الحلقة من عدة فصول:
الأول: تعريف التوحيد: ويتكون من عدة مباحث:
المبحث الأول: معنى التوحيد.
المبحث الثاني: الأدلة على كلمة "توحيد".
المبحث الثالث: أركان التوحيد.
الثاني: توحيد الربوبية: ويتكون من عدة مباحث:
المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية، وأدلته.
المبحث الثاني: معاني الربوبية ترجع إلى ثلاثة الخلق والملك التدبير.
المبحث الثالث: إقرار المشركين بهذا التوحيد.
المبحث الرابع: إقرار المشركين به كان ناقصاً.
الثالث: توحيد الألوهية: ويتكون من عدة مباحث:
الأول: تعريف توحيد الألوهية، وأدلته.
الثاني: توحيد الألوهية هو المقصد من بعثة الرسل.
الثالث: وقت وقوع الشرك في الأمم، وكيفية وقوعه.
الرابع: خلاصة ما تقدم.
الرابع: توحيد الأسماء والصفات: ويتكون من عدة مباحث:
الأول: تعريفتوحيد الأسماء والصفات، وأدلته.
الثاني: الأمور التي يقوم عليها توحيد الأسماء والصفات.
الخامس: أنواع التوحيد: ويتكون من عدة مباحث:
المبحث الأول: ذكر الأنواع إجمالاً قبل تفصيلها.
المبحث الثاني: أدلة هذا التقسيم.
المبحث الثالث: المنكرون لهذا التقسيم وسبب الإنكار وثمرته.
المبحث الرابع: العلاقة والفرق بين هذه الأنواع الثلاثة.
المبحث الخامس:شبه القوم في نفي هذه الأنواع.
هذا وأسأل الله تبارك وتعالى أن يكتب لها القبول عنده سبحانه، ثم عند خلقه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.
الفصل الأول: تعريـف التوحــيد:
كثير من الناس يعرف فضل التوحيد، لكن صورة التوحيد التي بعث الله بها الرسل وحقيقته غير واضحة عنده، وإذا كان هذا يقع فيه كثير من أصحاب الشهادات ممن ينتسب إلى الفقه والتصوف وغيرهم، فكيف بغيرهم من الناس ؟! ولذلك أحببنا أن نبين "حقيقة التوحيد" في هذه الفصول التي نرجو من الله أن تساعد القارئ المبتدئ على تكوين صورة واضحة عن حقيقة التوحيد التي بعث الله بها الرسل.
المبحث الأول: معنى التوحيد:
التوحيد لغة: مصدر وحد يوحد توحيداً، أي: جعل الشيء واحداً،والتوحيد هو مصدر وحد على وزن فعّل بتشديد العين المهملة، وكل ما كان على وزن (فعّل) فمصدره على وزن (تفعيل) نحو درس يدرس تدريساً، وشغل يشغل تشغيلاً، وكلم يكلم تكليماً ومنه الآية: (وكلم الله موسى تكليماً) ونحو ذلك.
والتوحيد شرعاً: إفراد الله تعالى بما يستحقه من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهذا يعني تنوع التوحيد إلى ثلاثة أنواع سيأتي الكلام عليها.
فالتوحيد في أصل اللغة والشريعة هو بمعنى الإفراد، فالتوحيد هو إفراده سبحانه بهذه الخصائص التي تفرد بها، فلا يشاركه فيها أحد مهما علت منزلته سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو رجلاً صالحاً.
وينبغي أن يعلم أن التوحيد بأنواعه لا يقوم حتى يجتمع الإقرار به في قلب العبد وعلى لسانه، والعمل به بجوارحه.
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب التميمي في "كشف الشبهات": (لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً).
المبحث الثاني: الأدلة على كلمة "توحيد":
يزعم أعداء التوحيد أن كلمة "توحيد" كلمة مبتدعة ليس لها أصل وهذا قول باطل، فإن أصل كلمة التوحيد معروف في اللغة كما تقدم، ومعروف في الشريعة أيضاً، ونحن سنسوق هنا بعض الأدلة على أنها معروفة أيضاً.
أدلة القرآن:
قال تعالى: (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً) وقال تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة)وقال تعالى: (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير)وقال: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) وقال: (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء حتى تؤمنوا بالله وحده) وقال: (وما من إله إلا إله واحد) وقال: (وإلهكم إله واحد) وقال: (قل هو الله أحد) ونحو ذلك.
أدلة السنة:
1- قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أرسله إلى اليمن: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى) وهو في "الصحيحين" وهذا لفظ البخاري.
2- وقال صلى الله عليه وسلم: (من وحد الله وكفر بما يعبد من دونه، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) رواه مسلم وغيره عن طارق بن أشيم.
3- وفي حديث عمرو بن عبسة الطويل في "صحيح مسلم" وهو حديث مشهور قال عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم: (فقلت له ما أنت؟ قال: (أنا نبي) فقلت وما نبي؟ قال: (أرسلني الله) فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء).
4- وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
5- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإن هشاماً نحر حصته خمسين بدنة وإن عمرو بن العاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه لنفعه ذلك) رواه أحمد، وهو في "الصحيحة" برقم: (484).
6- وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في "صحيح مسلم" في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (حتى إذا كان بالبيداء أهل بالتوحيد).
المبحث الثالث: أركان التوحيد:
1- ركنا التوحيد النفي والإثبات:
للتوحيد ركنان لا يُستغنى عنهما: الأول: هو النفي، والثاني: هو الإثبات، فلا يكون التوحيد توحيداً إلا بهذين الركنين، فالنفي فيه سلب ما يختص بالله عن غير الله، والإثبات فيه إفراد الله بهذه الأمور.
ونضرب على هذا مثالاً فنقول: لو أردنا أن نفرد زيداً بالعلم من بين الناس في بلد من البلدان، فلا يكفي أن نقول: (زيد عالم) لأن هذا فيه إثبات العلم لزيد لكن ليس فيه إفراد زيد بالعلم فيبقى احتمال أن هناك عالماً غيره، ولو قلنا: (لا عالم في البلد) لكنا قد نفينا العلم عن الجميع، وهذا فيه تعطيل، فالعبارة السـليمة أن نقول: (لا عالم إلا زيد) فنكون قد نفينا العلم عن غير زيد، وأثبتناه له وحده فقط.
ولذلك فألفاظ القرآن كلها في هذا الباب تدل على هذا الإفراد الذي ذكرناه بجميع صوره المعروفة في اللغة العربية، وصوره في اللغة العربية هي:
الأولى: تقديم ما حقه التأخير، مثل الظرف والجار والمجرور، وإنما قلنا حقها التأخير لأنها تأتي دائماً خبراً للمبتدأ على أحد الإعرابين، أو تتعلق بخبر محذوف على الإعراب الآخر، فإذا كانت كذلك فقد تقدمت فهي تفيد الحصر، مثل: (فابتغوا عند الله الرزق) ولم يقل: "فابتغوا الرزق عند الله"، فقوله: "فابتغوا عند الله الرزق" أي: عند الله وحده.
الثانية: أو تقديم المعمول مثل: (إياك نعبد، وإياك نستعين) والشاهد تقديم ضمير النصب، والمعنى: نعبدك وحدك، ونستعين بك وحدك.
الثالثة: النفي ثم الاستثناء، كقوله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله)، وسواء كان الاستثناء بإلا أو غيرها من أدوات الاستثناء.
الرابعة: بوجود "إنما" بكسر الهمزة، كقوله تعالى: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي".
الخامسة: تعريف المبتدأ والخبر مثل: "الله الصمد"، والصَّمد: هو السيد العظيم الذي تُصْمد إليه الحوائج، أي يُقصد بها، والمعنى الله الذي يقصد بالحوائج، لا يُقصد بالحوائج والسؤال إلا هو وحده.
وإليك بعض هذا الإفراد المستفاد من الصور المتقدمة، فمن ذلك قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وهذا أمر بعبادة الله ونهي عن صرف العبادة لغيره فهذا توحيد، وقوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وهذا نفي وإثبات فهو توحيد، وقوله: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني لكم نذير مبين) وقوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا الله) فيه النهي عن عبادة غير الله والأمر بعبادته وحده فدل على التوحيد، وقوله: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) كذلك، وغير ذلك من الآيات.
2- معنى النفي الكفر بالطاغوت، ومعنى الإثبات والإيمان بالله:
واعلم أن النفي يحمل معنى الكفر بالطاغوت، وأن الإثبات يحمل معنى الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت والإيمان بالله هما الجناحان اللذان يطير بهما طائر التوحيد، كما قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) وكلمة التقوى والعروة الوثقى هي لا إله إلا الله، وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) فالإيمان بالله وحده متوقف على الكفر بالطاغوت.
ومن هنا نعلم خطورة دعوى "حرية الاعتقاد" على عقيدة التوحيد ومصادمتها لهذه العقيدة العظيمة، لأن الكفر بالطاغوت منـزوع من قانون "حرية الاعتقاد"، فحرية الاعتقاد تعطي الحق لمن شاء أن يعبد ما شاء من الأوثان، في الوقت الذي تمنع الآخرين من الاعتراض عليه أو رد باطله، ولا شك أن هذا مصادم للكفر بالطاغوت الذي هو الركن الأول من أركان التوحيد، لأن الكفر بالطاغوت يوجب على الموحد التبرؤ من عبادة غير الله ومعاداة أهله صراحة وبكل وضوح، وهذا غير ما تجنيه هذه الدعوة المنحرفة على الجهاد في سبيل الله وهدم معالم الشرك، لأنه فرع الكفر الطاغوت.
والخلاصة أن دعوى "حرية الاعتقاد" تجني على مقاصد التوحيد وووسائله، ففيها فساد الدنيا والآخرة.
الفصل الثاني: توحيد الربوبية:
المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية، وأدلته:
1- تعريف توحيد الربوبية:
توحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بأفعاله الدالة على ربوبيته التي لا يشاركه فيها أحد، كخلق الخلق وتدبيرهم والقيام على مصالحهم ومعايشهم وما تفرع من ذلك، لأن الرب عند العرب هو السيد المالك، فمعناه يتعلق بملكه وتدبيره ورعايته.
وأصل هذا التوحيد هو الاعتراف بأن الله هو الرب المتفرد بالخلق والملك والتدبير، ولذلك كان الأصل في هذا التوحيد أنه مما يتعلق بعمل القلب، والبدن تابع له، بخلاف توحيد الألوهية فإنه يتعلق بالقلب والبدن معاً.
2- أدلة توحيد الربوبية:
وتوحيد الربوبية هو إفراد الله تعالى في ثلاثة أمور:
الأول الخلق: أي: أنه لا يقدر على الخلق إلا الله، والأدلة على ذلك كثيرة قال تعالى: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون) وقال تعالى: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) وقال: (الله خالق كل شيء) وقال: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) وقال: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) وقال: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) وقال: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون) وقال: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض) وقال: (قل هل من شركاءكم من يبدأ الخلق ثم يعيده) والآيات في ذلك كثيرة.
والمراد بالخلق هنا إيجاد الشيء من العدم وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وإنما نقول ذلك لأن القبورية أثبتوا أن هناك من يخلق مع الله، بحجة أن الله أثبت خالقين آخرين غيره سبحانه، واستدلوا بقوله تعالى: (فتبارك الله أحسن الخالقين).
والجواب: أن الخلق الذي ينسب إلى المخلوق هو من باب تحويل الشيء من صورة إلى أخرى، كتحويل الطين إلى إبريق، وتحويل الخشب إلى دولاب، والماء إلى برد وثلج ونحو ذلك، وليس الخلق الذي هو إيجاد الشيء من العدم.
على أنه ينبغي التنبيه إلى أن بعض التحويل من شيء إلى شيء آخر هو بمنزلة إيجاد الشيء من العدم لا يقدر عليه إلا الله فقط، حتى المخلوق لا يقدر عليه، كتحويل النطفة منها إلى علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة إلى عظام العظام إلى لحم ونحو ذلك.
والضابط في ذلك أن المخلوق لا يقدر على تحويل الشيء من صورة إلى أخرى إلا بوجود الأسباب التي هيأها الله، والخالق يقدر على ذلك بقوله كن فيكون.
الثاني الملك: أي: أنه تعالى متفرد بالملك، والأدلة في ذلك كثيرة، قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك) وقال: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) وقال: ( ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) وقال: (ذلكم الله ربكم له الملك) وقال: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك) وقال: (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء) وقال: (له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) وقال: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه) والآيات في ذلك كثيرة.
وتأمل في قوله تعالى: (بيده الملك) وقوله: (بيده ملكوت) وقوله: (له الملك) وقوله: (له ملك السموات ..) وقوله: (له ما في السموات والأرض) ونحو ذلك، تعرف إفراد الله بهذه المعاني بما تقدم من أساليب وطرق الإفراد في اللغة.
الثالث التدبير: أي: أنه تعالى متفرد بتدبير الأمور، وتصريف هذا الكون، قال تعالى: (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) وقال: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يـدبر الأَمـر) والآيات في إثبات تفرد الله بتصريف الأمور، وتدبير المعايش كثيرة.
المبحث الثاني: معاني الربوبية ترجع إلى ثلاثة الخلق والملك والتدبير:
وهناك معاني كثيرة أخرى من معاني الربوبية مثل الرزق والقبض والبسط، والإحياء والإماتة، وهبة الولد، وشفاء المريض، والنصر على العدو ونحو ذلك،وهي كثيرة نذكر منها:
1- الضر والنفع: فقد قال الله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) وقال تعالى: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) وغير ذلك من الآيات.
والعلة من ذكر تفرده بالضر والنفع أن انتفاء ذلك عن هذه المعبودات دليل على عجزها في نفسها، فضلاً عن أن تملك لغيرها شيئاً، وأن الذي يستحق أن يعبد رغبة ورهبة هو الله لأنه مالك ذلك كله.
2- ومن ذلك الرزق: فهو الذي يسوقه ويأتي به ويسهله للخلائق، وكل ما يجده الناس في معايشهم من الأرزاق فهو من فضله وكرمه سبحانه وحده لا يشاركه في ذلك أحد.
قال تعالى: (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له) فنفى أن يكون غيره يملك شيئاً من الرزق ولو يسيراً، وعرفنا ذلك بالأسلوب البلاغي في وجود النكرة في سياق النفي فنستفيد العموم أي: لا يملكون رزق المال ولا الأولاد ولا الطعام ولا الشراب ولا العافية ولا غير ذلك، ثم أمر بالتوجه إلى الله وحده وذلك بتقديم ما حقه التأخير حيث قدم الظرف فقال: (عند الله الرزق) ولم يقل: فابتغوا الرزق عند الله.
وقال تعالى: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) فأفرد نفسه بالرزق ونفاه عن غيره، لأن هذا استفهام يراد به النفي، ومن ذلك قوله تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) وغير ذلك.
3- ومن ذلك شفاء المريض: فهو وحده الذي يشفي من المرض كما قال تعالى عن إبراهيم: (وإذا مرضت فهو يشفين) وفي الرقية كما في الحديث: (لا شفاء إلا شفاؤك).
4- ومن ذلك كشف الضرر: فإنه لا يقدر عليه إلا الله، كما قال تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) وقال: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره) وقال: (فلما كشفنا عنهم الرجز) وقال تعالى: (فلما كشفنا عنه ضره) وغير ذلك من الآيات.
5- ومن ذلك أنه هو المتفرد بالرفع والخفض: كما قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وقال: (ورفعنا لك ذكرك) وقال: (نرفع درجات من نشاء) وقال: (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) إلى غير ذلك من الآيات.
6- ومن ذلك هبة الولد وإخراجه من بطن أمه: قال تعالى: (يهب لم يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور) وقال عن زكريا عليه السلام: (فاستجبنا له ووهبنا له يحي) وقال: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) وقال: (ثم السبيل يسره) وقال: (ثم نخرجكم طفلاً).
7- ومن ذلك هداية القلوب وتسديدها وتوفيقها: قال تعالى: (من يهد الله فهو المهتد) ويقول: (إنك لا تهدي من أحببت) وقال: (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) وغير ذلك من الآيات.
8- ومن ذلك النصر على العدو: كما قال تعالى: (وما النصر إلا من عند الله) وقال: (ما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) وقال: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده).
9- ومن التأليف بين القلوب: كما قال تعالى: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وقال: (واذكروا إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً).
وغير ذلك من معاني الربوبية كالإحياء والإماتة، والقبض والبسط، والإعطاء والمنع وغير ذلك،وكلها ترجع إلى الخلق والملك والتدبير.
المبحث الثالث: إقرار المشركين بهذا التوحيد:
والمشركون كانوا يقرون بربوبية الله تعالى، وأنه خالق كل شيء كما في كثير من الآيات، منها قوله سبحانه وتعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) وقوله سبحانه وتعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) وقوله سبحانه وتعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون0سيقولون لله قل أفلا تذكرون0قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم0سيقولون لله قل أفلا تتقون0قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون0سيقولون لله قل فأنى تسحرون).
فهؤلاء الآيات بينت أن الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى هو الرب المتفرد بالخلق والملك والتدبير كان مستقراً في نفوس المشركين، وأنهم لم يكونوا ينازعون في قضية ربوبية الله سبحانه وتعالى، ولم ينازعوا في أنه رب السموات والأرض، وأنه خالق الخلق ورازقهم سبحانه وتعالى، وإنما كانوا ينازعون في توحيد الله بالعبادة، فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأوثان والأصنام.
قال شيخ الإسلام كما "مجموع الفتاوى"(3/97): (وقد أخبر سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه فى كتابه). ثم ساق بعض الآيات الدالة على ذلك.
وقال النعمي في "معارج الألباب إلى مناهج الحق والصواب": (ولقد تتبعنا في كتاب الله فصول تراكيبه، وأصول أساليبه، فلم نجده تعالى حكى عن المشركين أن عقيدتهم في آلهتهم وشركائهم التي عبدوها من دونه أنها تخلق وترزق وتحي وتميت وتنزل من السماء ماء، وتخرج الحي من الميت، والميت من الحي).
وقال: (ومن أمعن النظر في آيات الكتاب وما قص من محاورات الرسل مع أممهم وجد أن أس الشأن، ومحط رحال القصد شيوعاً، وكثرة وانتشاراً وشهرة هو دعاء الله وحده وإخلاص العبادة له).
ونحب أن ننبه إلى أننا نقول: إن المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، ولا يلزم من ذلك أنهم كانوا موحدين توحيداً صحيحاً مقبولاً.
وهناك شبهة للقبوريين في هذا العصر الذين ينكرون تقسيم التوحيد إلى عدة أقسام، والآيات التي فيها اعتراف المشركين ترد عليهم، لذلك قالوا: هذا الإقرار إنما قاله مشركو قريش نفاقاً، ولم يكونوا يعترفون بذلك في قرارة نفوسهم.
ويكفي أن نذكر وجهين في الجواب عن هذه الشبهة: الأول: هؤلاء الآيات مكية، والنفاق لم يظهر في مكة، وإنما ظهر في المدينة عندما قوي الاسلام بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فخاف بعض الناس أن يظهر الكفر فكان ينافق، أما في مكة فكانوا يجاهرون بالكفر، فما هناك أي ضرورة تحتم عليهم أن ينافقوا.
الثاني: أنهم لو كانوا منافقين في هذا الاعتراف والإقرار لعقَّب عليهم ربنا سبحانه وتعالى، وبين أنهم يقولون هذا عن نفاق لا عن تسليم وقناعة، وقد بين سبحانه وتعالى في أكثر من آية ما يقوله المنافقون من الكذب ويتعقبهم سبحانه وتعالى كما في قوله سبحانه وتعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا) قال الله عز وجل بعدها: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم).
وآية أخرى وهي قوله سبحانه وتعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)، والشهادة: هي تواطؤ اللسان والقلب على شيء، ومن المعروف أن المنافقين يقولون هذا بألسنتهم دون الإقرار بقلوبهم، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذه الأقوال يقولها المنافقون عن غير اعتقاد، وأنهم يكذبون في هذا الشهادة، فمن هنا نعرف أن إقرار كفار العرب بالربوبية عن إقرار حقيقي منهم، فلو كان كفار قريش كاذبين في هذا الإقرار لما أقرهم الله عز وجل.
المبحث الرابع: إقرار المشركين به كان ناقصاً:
وأيضاً نريد أن ننبه إلى مسألة مهمة وهي أن مشركي العرب عموماً، و مشركي قريش خصوصاً كانوا مقرين بتوحيد الربوبية بالجملة ولكن لم يكونوا مقرين به كاملاً، ولم يقروا به على الوجه المطلوب، بل كان عندهم خلل في توحيد الربوبية.
فمثال ذلك: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، فقد آمنوا بأن الله خلقهم لكن لم يؤمنوا بأن الله سيبعثهم، فهم آمنوا بالمبدأ ولم يؤمنوا بالمعاد، وأيضاً كانوا يستسقون بالأنواء بحيث إنهم يستسقون ببعض النجوم وبعض الأنواء والمنازل، كذلك كانوا يعلقون التمائم، والتمائم: "جمع تميمة وهي ما يعلقها الإنسان من جلد أو من خشب أو غير ذلك يريد بها دفع ضرر يتوقع حصوله، أو رفع ضرر قد حصل" فهم يعلقونها ويعتقد بعضهم أنها تنفع بإذن الله أو بنفسها، وكان فيهم التطير، وكان فيهم أشياء أخرى مما يخل بتوحيد الربوبية، ولكن بالجملة كان عندهم الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى هو الرب الخالق والمالك والرازق والمتصرف في هذا الكون سبحانه وتعالى.
قال شيخ الإسلام كما في "درء تعارض العقل والنقل" (5/156): (وهم مع شركهم وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية لا يثبتون مع الله شريكاً مساوياً له في أفعاله ولا في صفاته).
وقال المقريزي في "تجريد التوحيد المفيد": (فأبان سبحانه بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية، على أن منهم من أشرك في الربوبية كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله).
الفصل الثالث: توحيد الألوهية:
المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية، وأدلته:
1- تعريف توحيد الألوهية:
توحيد الألوهية: هو إفراد الله بأفعال العباد، أي: بعبادتهم فقط، وليس المقصود إفراده تعالى بجميع أفعال العباد، فإن من أفعالهم ما هو من قسم المباحات كالأكل والشرب وغيرهما.
وهذا التوحيد هو معنى لا إله إلا الله، فإن هذه الكلمة تدل على توحيد الألوهية بدلالة المطابقة كما تقدم.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (وأحسن ما يعرف هذا التوحيد هو قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وقوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) أ.هـ
ويسمى توحيد الألوهية والإلهية وتوحيد العبادة ونحو ذلك.
قال الشيخ ابن سعدي في "القواعد الحسان": (ويقال له توحيد الإلهية، فإن الإلهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم، ويوقنوا أنه الوصف الملازم له سبحانه الدال عليها الاسم العظيم وهو الله، وهو مستلزم جميع صفات الكمال، ويقال له: توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بإخلاص العبادة لله تعالى، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه، مخلصاً جميع عبادته محققاً ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره).
2- أدلة توحيد الألوهية:
وهذه الألوهية تعني تفرد الرب بحق العبادة فلا يشاركه في ذلك أحد، قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وقال: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) وقال: (إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه) وقال: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) – إلى قوله: - (فلا تجعلوا لله أنداداً) وقال: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) وقال: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دونه) وقال: (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، إليه أدعو وإليه مآب) وقال: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) وقال: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه أن لا تعبدوا إلا الله) وقال الله عن الكفار أنهم قالوا: (أجئتنا لنعبد الله وحده).
الثاني: توحيد الألوهية هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل:
1- توحيد الألوهية هو دعوة الرسل في الأصل:
والمقصود الأعظم من دعوة الرسل هو تحقيق هذا التوحيد، وإن كانوا أيضاً قد جاءوا لتحقيق سائر أنواع التوحيد، لكن هذا التوحيد كان في المقدمة لأن الشرك الذي وقع للأمم كان من جهته.
فتوحيد العبادة أمرت به جميع الشرائع، وأقامته جميع الملل كما قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)وقال تعالى: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) وغير ذلك من الآيات، وقد تقدم هذا في الدرس الأول "مكانة التوحيد".
والمشركون أنفسهم فهموا هذا الذي ذكرناه من أن الرسل بعثوا لينهوا أممهم عن عبادة غير الله فقال الله عنهم: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) وقال: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً).
2- أسلوب القرآن في الدعوة إلى الألوهية:
وللقرآن أسلوب خاص في دعوته إلى توحيد الألوهية فمن ذلك:
1- إلزام من أقر بالربوبية بتوحيد الألوهية، فالله يعلم أن مشركي قريش يقرون في باب الربوبية بالجملة، ويعلمون في قرارة أنفسهم أنه لا يشارك الله أحد في ربوبيته للخلائق، فجعل إقرارهم هذا ملزماً لهم في توحيد العبادة في أكثر من آية.
قال شيخ الإسلام كما "مجموع الفتاوى" (14/180): (أما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون وكانوا يعبدون مع الله غيره ويحبونهم كما يحبونه، فكان ذلك التوحيد - الذي هو توحيد الربوبية - حجة عليهم).
وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين" (56-57): (ولهذا كانت لا إله إلا الله أفضل الحسنات، وكان توحيد الإلهية الذي كلمته لا إله إلا الله رأس الأمر، فأما توحيد الربوبية الذي أقر به كل المخلوقات فلا يكفي وحده وإن كان لا بد منه وهو حجة على من أنكر توحيد الألوهية).
ومن هؤلاء الآيات قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) والمراد كما أشار غير واحد من المفسرين أنه إذا أقررتم أنه الخالق لكم ولغيركم فكيف تعبدون غيره ؟!
قال ابن كثير عند هذه الآية: (ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غَيره).
وقال رحمه الله عند آيتي العنكبوت (ولئن سألتهم): (وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية فإن المشركين كانوا يعترفون بذلك).
2- ومنها بيان أن الله خلق الخلق لعبادته وحده سبحانه، وأن الذي صرف العبادة لغيره لم يحقق العبودية المطلوبة لله والعبادة المطلقة، وأن الله لم يخلق الناس عبثاً، ولم يتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون، بل خلقهم لعمارة هذا الكون بالطاعة والعبادة.
3- ومنها أنه خاطبهم على قدر عقولهم فضرب له الأمثلة الكثيرة ومنها: أنه أخبر أن السيد كما أنه لا يسره أن يشاركه عبده ومملوكه في ماله فكذلك الله جل وعلا لا يحب أن يشاركه أحد، فهكذا الرب الذي يخلق الخلق ثم يعبدون غيره.
قال تعالى: (ضَرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون).
قال ابن كثير في "تفسيره": (هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ملك له، لا يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله، فهو وهو فيه على السواء، تخافون أن يقاسموكم الأموال) أ.هـ
3- خطأ من يرى أن توحيد الربوبية هو غاية دعوة الرسل وغيرها:
وهناك من الطوائف من ترى أن الغاية الذي بعث الله لها الرسل هو الإيمان بأن الله هو الخالق والمدبر للخلائق وهذا غير صحيح.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (3/97-98): (وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد، فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد فى كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع: فيقولون هو واحد فى ذاته لا قسيم له، وواحد فى صفاته لا شبيه له، وواحد فى أفعاله لا شريك له.
وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا: (لا اله الا الله) حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع.
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه و سلم أولا لم يكونوا يخالفونه فى هذا بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا وهم مع هذا مشركون، فقد تبين أن ليس فى العالم من ينازع فى أصل هذا الشرك) أ.هـ
وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين" (ص30): (وغاية هذا الفناء في توحيد الربوبية وهو أن لا يشهد رباً وخالقاً ومدبراً إلا الله، وهذا هو الحق ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفي في النجاة فضلاً عن أن يكون شهوده والفناء فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم، فالغاية التي لا غاية وراءها ولا نهاية بعدها الفناء في توحيد الإلهية).
وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين" (56-57): (ولهذا كانت لا إله إلا الله أفضل الحسنات، وكان توحيد الإلهية الذي كلمته لا إله إلا الله رأس الأمر، فأما توحيد الربوبية الذي أقر به كل المخلوقات فلا يكفي وحده وإن كان لا بد منه وهو حجة على من أنكر توحيد الألوهية).
الثالث: وقت وقوع الشرك في الأمم، وكيفية وقوعه:
روى البخاري في "صحيحه" برقم: (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت).
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (1/167): (وقد استفاض عن ابن عباس وغيره في "صحيح البخاري" وفي كتب التفسير وقصص الأنبياء في قوله: (وقالوا لا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، قال ابن عباس: ثم صارت هؤلاء الأوثان في قبائل العرب) أ.هـ
ثم جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فبقي الناس على ملته حتى جاء من غير ملته فأحيى عبادة الأصنام مرة أخرى، وكان أول من أحيا عبادة الأصنام بين العرب هو عمرو بن لحي الخزاعي، فقد كان الناس على ملة إبراهيم حتى جاء هذا الرجل فأخرجها في بعض أسفاره من الرمال بوحي من الشيطان فنقلها إلى جزيرة العرب، ودعا الناس إلى عبادتها فاستجابوا له لما له بينهم من جاه وسلطان.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": (وقد أخرج الفاكهي من طريق ابن الكلبي قال: " كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة ثم ائت سِيْفَ جدَّة، تجد بها أصناماً معدة، ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب، قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفى عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم فدعا إلى عبادتها فأجيب) أ.هـ
المبحث الرابع: خلاصة ما تقدم:
حتى لا يبقى القارئ مشتتاً بين هذه المباحث أحببنا أن نلخص له ما تقدم ذكره إلى أمور، فنقول وبالله التوفيق:
الأول: أن الناس كانوا على الفطرة والتوحيد حتى وقع الشرك في قوم نوح أو قبلهم بقليل ثم سارت الأمم على هذه الطريقة، يخرجهم الشيطان عن فطرتهم بهذا النوع من الشرك.
الثاني: أن شركهم لم يكن من جهة اعتقاد أن هناك من يتصرف في هذا الكون مع الله أو أنه يخلق أو يرزق أو غير ذلك من معاني الربوبية، وإنما لكونهم صرفوا العبادة لغير الله.
الثالث: أن عباد الأوثان لم يكونوا يعتقدون أن هذه المعبودات تضر وتنفع بنفسها، ولكن صرفوا لها العبادة لتقربهم إلى الله زلفى فقط، لما يرونه من فضل هؤلاء الصالحين وقربهم من الله.
الرابع: أن الرسل إنما جاءت لإفراد الله بالعبادة، وبينت أن صرف العبادة لغير الله من الشرك العظيم الذي يوجب قتال أهله، وأن حسن النية التي يتحجج بها هؤلاء لا تنفعهم عند الله.
وقد تشذ عما ذكرناه بعض الصور، ولكن هذا نادر ولا يؤثر فيما تقدم، والأصل ما ذكرناه.
الفصل الرابع: توحيد الأسماء والصفات:
الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات، وأدلته:
1- تعريف توحيد الأسماء والصفات:
وتوحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله تعالى بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مع الإقرار بمعانيها إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل.
والأسماء: هي الكلمات الدالة على ذاته مثل الرحمن والرحيم والعزيز والغفور ونحوها.
والصفات: هي المعاني القائمة بالذات كالرحمة والعزة ونحوهما.
وهذا التوحيد مندرج في الأصل في توحيد الربوبية.
قال الشيخ الفوزان في "شرح كتاب التوحيد": (النوع الثالث: وهو توحيد الأسماء والصفات، فهو في الحقيقة داخل في توحيد الربوبية، ومن أجل هذا بعض العلماء يجمل ويجعل التوحيد نوعين:
توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات وهو التوحيد العلمي، وتوحيد في الطلب والقصد وهو التوحيد الطلبي العملي، وهو توحيد الألوهية) أ.هـ
2- أدلتــه:
وعندنا على هذا التوحيد أدلة كثيرة مستفيضة من الكتاب والسنة كقوله تعالى: (ولله المثل الأعلى) أي: الوصف الأعلى وقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) وقوله: (ولم يكن له كفوا أحد) وقوله: (هل تعلم له سمياً) وقوله: (فلا تجعلوا لله أنداداً) والند يكون في الصفات كما يكون في الربوبية والألوهية، ونحو ذلك من الأدلة التي تبين تفرده بهذه الأسماء والصفات التي سمى بها نفسه بها أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: الأمور التي يقوم عليها توحيد الأسماء والصفات:
وتوحيد الأسماء والصفات مبني على أمور لا يقوم توحيد الأسماء والصفات إلا بها:
الأول: أن يثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وينفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن نعتقد أن هذه الأسماء والصفات خاصة بالله، لا يشاركه فيها أحد من الخلق مهما علت منزلته، أو عظمت مكانته، فلا نصف أحداً من الخلق بعلم الغيب أو العلو المطلق أو الاستواء على العرش أو نحو ذلك من الصفات، ولا نسميه بالأسماء الخاصة بالله كالرحمن أو الإله أو الرب أو الله أو نحو ذلك من الأسماء.
الثالث: إثبات المعاني الواردة في النصوص على ما يليق بالله تعالى إثباتا بلا تمثيل.
الرابع: أن نفوض الكيفية فلا نخوض فيها لأننا لا نعلمها كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول).
فإذا سار العبد على هذه الأصول العظيمة سلم له معتقده في باب "الأسماء والصفات".
الفصل الخامس: أنواع التوحيد:
المبحث الأول: ذكر أنواع التوحيد إجمالاً قبل تفصيلها:
التوحيد ثلاثة أنواع هي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع الثلاثة لابد للعبد من الإتيان بها كلها، ولا نجاة له إلا بذلك.
وفي الوقت نفسه لا بد من التفريق فيما بينها، بمعنى أنها ليست توحيداً واحداً كما يظن من لم يعرف حقيقة التوحيد، فبعض الطوائف يظنون أن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية واحد لا فرق بينهما، ولذلك فهم يرون غاية دعوة الرسل هو الإيمان بأن الله هو الخالق، وأن من آمن بذلك فقد أتى بكلمة التوحيد، فأنتج هذا القول ثماراً سيئةً منها أن التوحيد المطلوب من الناس أن الله هو الخالق القادر على خلق الشيء من العدم، وعليه فإنهم لا يعدون صرف شيء من العبادة لغير الله مناقضاً للتوحيد.
ونحن سنذكر هذه الأنواع الثلاثة مع ذكر ما استطعنا من الأدلة عليها، والله الموفق.
المبحث الثاني: أدلة هذا التقسيم:
تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام دليله ثلاثة أشياء: الاستقراء التام، ودلالة كلمة لا إله إلا الله، وتنصيص السلف وأئمة الدين والعلم.
الدليل الأول الاستقراء التام:
والاستقراء التام: هو الحكم على شيء كلي بواسطة إثباته بالتتبع والتصفح لجميع الجزئيات، وهو حجة بإجماع الأصوليين.
قال الشنقيطي في "الأضواء": (وقد تقرر في الأصول: أن الاستقراء من الأدلة الشرعية، ونوع الاستقراء المعروف عندهم بالاستقراء التام حجة بلا خلاف، وهو عند أكثرهم دليل قطعي).
وقال الشنقيطي في "الأضواء" في موضع: (وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله: (قال فرعون وما رب العالمين) تجاهل من عارف أنه عبد مربوب بدليل قوله تعالى: (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر)، وقوله: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً) وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله. كما قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً.
الثاني: توحيده جل وعلا في عبادته، وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى: (لا إله إلا الله) وهي متركبة من نفي وإثبات، وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب).
النوع الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته، وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، كما قال تعالى: (ليس كمثله شيء).
والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله، كما قال بعد قوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) أ.هـ باختصار.
وأقول إن كثيراً من أبواب العلم بنيت على الاستقراء، ومن ذلك أن النحويين قسموا الكلمة إلى ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف، ودليلهم على هذا استقراء تام لكلام العرب، والصوفية القبورية يسلمون بهذا التقسيم ولا يناقشون فيه، وحجة هذا التقسيم هو حجة تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، مع أن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام أظهر وأبين وأوضح، لأن أدلته هي الكتاب والسنة وقد نطق به السلف الصالح، وسيأتي معنا بعض الآيات الدالة على هذا الشيء.
وإذا قلنا: إن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح، فهل يمكن أن يقال: إن هذا لم ينص عليه الشرع وإنما هو تثليث، وإن كان العلماء يستندون في ذلك التقسيم إلى نصوص الشريعة ويعتمدون على استقراء تام لها ؟!
فقولنا: "الإيمان: قول وعمل واعتقاد" لم يدل عليه دليل شرعي يحمل هذا اللفظ، وإنما هو مأخوذ من جملة الأدلة، ومعتمد على استقرائها، وإنما ذكر العلماء هذا التفصيل لما ظهرت الأقوال الزائغة.
وأيضاً تقسيم الكلمة إلى ثلاث أقسام: الاسم، والفعل، والحرف الذي جاء لمعنى، وهو شيء يعرفه "الصوفية"، فهل العرب نصت على هذا التقسيم بعينه ؟!
وأيضاً أغلب هؤلاء القبوريين على عقيدة "الأشاعرة" وهم يقولون: إن توحيد الله ينبني على ثلاثة أشياء:
توحيد الذات، توحيد الصفات، توحيد الأفعال، وهذا التقسيم عليه ملاحظات كثيرة من حيث هو، ولكن أردنا أن نبين أن القبوريين المنكرين للتقسيم العلمي للتوحيد، هم أنفسهم يقرون بتقسيم آخر وإن كان ليس مبنياً على أسس صحيحة.
الدليل الثاني دلالة كلمة "لا إله إلا الله":
فكلمة التوحيد تدل على إفراد الله بالعبادة بدلالة المطابقة، لأن معنى "كلمة التوحيد": "لا إله إلا الله" هو إفراد الله بحق العبادة ونفي هذا الحق عن غيره، و"الإله" لا يكون مستحقاً لهذه العبادة إلا إذا كان رباً خالقاً مدبراً لمصالح عباده، فهذا توحيد الربوبية وقد عرفناه بدلالة التضمن، والرب موصوف بصفات الكمال والجلال، وهذا توحيد للأسماء والصفات، وقد عرفناه بدلالة الالتزام.
الدليل الثالث: طريقة السلف، وتنصيص الأئمة:
قال سبحانه وتعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فأثبت سبحانه وتعالى في الآية إيماناً للمشركين من جهة، وشركاً وقعوا فيه من جهة أخرى، فقد قال العلماء في معنى الآية: (وما يؤمن أكثرهم بالله) أي: في جانب الربوبية (إلا وهم مشركون) أي: في جانب العبادة.
قال ابن كثير في تفسيره في "تفسيره" "سورة يوسف" قال ابن عباس: "من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم: من خلق السموات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال ؟ قالوا: الله، وهم مشركون به" يعني في العبادة).
قال ابن كثير: (وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم).
وللأئمة كلام نصوا على هذا التفصيل والتقسيم ونقلوه عن غيرهم، ويكفي أن أذكر ثلاثة من هؤلاء الأئمة الذين شهد لهم الناس بإمامتهم بالعلم، وسنشير إلى الباقي:
1- ما قاله الطحاوي في أول "عقيدته": (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولاشيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره).
فقوله: (ولا شيء مثله) فيه الإشارة إلى توحيد الأسماء والصفات، وقوله: (ولا شيء يعجزه) فيه إشارة إلى توحيد الربوبية، وقوله: (ولا إله غيره) فيه إشارة إلى توحيد الألوهية.
وهذا التفصيل عليه أئمة الحنفية وهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ثم محمد بن الحسن، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، وقد أشار الطحاوي في مقدمة "عقيدته" إلى أن رسالته هذه هي على معتقد الأئمة الثلاثة.
2- ما قاله ابن بطة في "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية": (وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعاً.
والثاني: أن يعتقد وحدانيته، ليكون مبايناً بذلك مذاهب أهل الشرك، الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره.
والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها من العلم والقدرة والحكمة، وسائر ما وصف بها نفسه في كتابه.
إذ قد علمنا أن كثيراً ممن يقر به ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته فيكون إلحاده قادحاً في توحيده، ولأنا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحد من هذه الثلاث، والإيمان بها) أ.هـ
3-قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرهاً) من آل عمران (3/336): (وله خشع من في السموات والأرض، فخضع له بالعبودية وأقر له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية طوعاً وكرهاً) أ.هـ
وقد كرر هذا الأسلوب في عدة مواضع: عند آية النساء: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وعند آية الكهف: (فليعمل عملاً صالحاً) وعند آية (ص) (وما من إله إلا الله الواحد القهار) وغيرها.
وهذا صنيع أهل العلم في كتبهم، ومن هؤلاء الإمامان ابن منده وابن خزيمة، فمن تأمل كتابيهما في "التوحيد" وتبويباتهما رأى ما ذكرناه من قبل.
المبحث الثالث: المنكرون لهذا التقسيم، وسبب إنكارهم وثمرته:
1- المنكرون لهذا التقسيم وسبب إنكارهم:
هناك من أهل الضلال ولاسيما من المتأخرين من ينكر هذا التقسيم المذكور، بل ويشبهه بتثليث النصارى والعياذ بالله، وهم عباد القبور والمفتونون بأضرحة الأولياء والصالحين.
والذي يظهر أن المتأخرين منهم إنما أنكروا ذلك لأن هذا التقسيم يكشف شركهم وما هم عليه من عبادة غير الله، ولذلك هم يقولون: "كيف يكون من يستغيث بالصالحين مشركاً وهو يؤمن بالله رباً وخالقاً ؟!!".
فإذا عرف المسلم "أقسام التوحيد" المذكورة عرف أن القوم يوحدون في باب الربوبية بالجملة، ويشركون في باب العبادة، كحال المشركين الأوائل تماماً، بل الشرك عند المتأخرين في باب "الربوبية" أكثر من الشرك عند مشركي قريش وغيرهم، على أن توحيد الربوبية وحده لا ينفع صاحبه ولا يخرجه من الكفر إلى الإسلام ولا يقيه من الخلود من النار، ولذلك يسميه بعض العلماء توحيد المشركين.
قال شيخ الإسلام كما "مجموع الفتاوى"(3/105): (فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا اله الا الله فلا يستحق العبادة أحد الا هو، وأن محمداً رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فلا بد من الكلام فى هذين الأصلين).
وقال رحمه الله كما "مجموع الفتاوى" (14/179-180): (فهذا التوحيد توحيد الإلهية يتضمن فعل المأمور و ترك المحظور... وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين و المشركين وعليه يقع الجزاء والثواب فى الأولى والآخرة فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين فان الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
أما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون وكانوا يعبدون مع الله غيره) أ.هـ
2- ثمرة إنكارهم:
ولقد كان لهذا الإنكار ثمار سيئة على عقائد القوم، وهي كثير ولكن أكتفي بذكر بعضها:
الأول: عدم التفريق بين أنواع التوحيد، واعتقادهم أن الدعوة إلى كلمة التوحيد هي الدعوة إلى الإيمان بأن الله هو الخالق، وأن من آمن بذلك فقد دخل الإسلام وأتى بكلمة التوحيد.
الثاني: اعتقادهم بأن الرسول إنما قاتل المشركين لأنهم اعتقدوا أن الأوثان شركاء لله في خلق العالم وتدبيره، وأن اتخاذ المتأخرين الأنبياء والصالحين وسائط فيما بينهم وبين الله لا يضر إيمانهم، ما دام أنهم لم يعتقدوهم شركاء في خلق العالم وتدبيره.
الثالث: فهموا أن العبادة لله هي مجرد الخضوع للرب، والاعتراف بأفعال الرب مثل الرزق والإحياء والإماتة والنفع والضر، وأن صرف بعض الأعمال كالدعاء والذبح والنذر لا يضر.
المبحث الرابع: العلاقة والفرق بين هذه الأنواع الثلاثة:
تقدم في الكلام على دلالة (لا إله إلا الله) بيان نوع العلاقة بين أنواع التوحيد الثلاثة، فتوحيد الربوبية هو الأصل، فحق العبادة إنما ثبت بعد ثبوت الربوبية له سبحانه.
ويمكن تلخيص العلاقة بين أنواع التوحيد إلى أمور:
الأول: أن توحيد الربوبية يدل على توحيد الألوهية بدلالة الالتزام، بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب القيام بتوحيد الألوهية، فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره لزم إفراده بالعبادة، ولذلك اتخذه الله حجة على المشركين فألزمهم بتوحيد الألوهية.
قال شيخ الإسلام كما "مجموع الفتاوى" (14/180): (أما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون وكانوا يعبدون مع الله غيـره ويحبونهم كما يحبونه، فكان ذلك التوحيد - الذي هو توحيد الربوبية – حجة عليهم، فإذا كان الله هو رب كل شيء و مليكه، ولا خالق ولا رازق إلا هو، فلماذا يعبدون غيره معه؟ وليس له عليهم خلق ولا رزق ولا بيده لهم منع ولا عطاء بل هو عبد مثلهم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً) أ.هـ
الثاني: توحيد الألوهية يدل على توحيد الربوبية بالتضمن، أي: من عبد الله وحده لا شريك له فلابد أن يكون معتقداً أنه ربه وخالقه ورازقه، إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر.
الثالث: توحيد الربوبية ومثله توحيد الأسماء والصفات عمل قلبي في الأصل، لأنه قائم على الإقرار والاعتراف والإثبات، ولذا سمي توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي، أما الألوهية فهو عمل قلبي وبدني لأنه قائم على التوجه إلى الله بالعبادة، فلا يكفي فيه عمل القلب، ولذلك سمي توحيد القصد والطلب.
المبحث الخامس: شبهة القوم في نفي هذه الأنواع:
ولهؤلاء القوم شبهات أثاروها على هذا التقسيم ظنوا أنها تنافي هذا التقسيم أو تصادمه فقد زعموا أن الرسل جاءوا لدعوة الناس إلى الإيمان بأن الله هو الخالق لكل شيء، لأن المشركين لم يكونوا يؤمنون بذلك.
وقالوا: إن الله قال في كتابه عن هؤلاء المؤمنين: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) فدل على أن المعركة كانت بين الرسل والمشركين في أصل الإيمان بالله، وأن هؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله !!
والجواب عن الطرف الأول أن نقول:
إن هذا الذي قالوه غير صحيح لعدة أمور: منها أن هذا قول ليس له دليل يعتمد عليه، وهذا الوجه وحده كاف في نقض دعواهم، ومنها أن هذا مناقض تماماً للمعلوم من حياة الناس في عهده وقبل وبعد عهده صلى الله عليه وسلم، فمشركو "مكة" كأبي جهل وغيره، ومشركو سائر قبائل العرب كانوا يعرفون إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنه مرسل من ربه، ويعظمون البيت الحرام، ويعلمون أن لهذا البيت رباً يحميه كما قال عبد المطلب لأبرهة، وهم يحجون هذا البيت ويكرمون من يأتيه من الحجاج، ويحلفون بالله في أيمانهم، ويخافون اليمين الغموس، ويخافون دعوة المظلوم ولاسيما عند البيت الحرام.
ومشركو العرب كانوا يعرفون أنواعاً من العبادات يتقربون بها إلى الله، فقد قال حكيم بن حزاملرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت أمورا كنت أتحنث - أي: أتعبد - بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء؟ - أي: من الأجور والثواب - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير" وهو متفق عليه.
ومن ذلك النذر، ألم يقل عمر: "إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام" فقال رسول الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" والحديث متفق عليه.
ومن ذلك الصيام، قالت عائشة رضي الله عنها:"كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية" والحديث متفق عليه.
وغير ذلك من الدلائل التي تدل على أن المشركين كانوا يعرفون الله في الجاهلية، وهذا أشهر من أن يستدل له، وإنما كانوا يعبدون الأوثان لأنهم يعتقدونها تمثل أرواح رجال صالحين يشفعون لهم عند الله كما ذكر ذلك ربنا في كتابه الكريم حيث قال: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، لكنهم (إذا ركبوافي الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) وتركوا ما هم عليه من الشرك، فجاءت الرسل تدعو الناس إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما يعبد من دونه من الأوثان والأصنام، فهذا هو موضع النزاع بين الرسل وأممهم، ولاسيما بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والكفار.
والجواب عن الطرف الثاني أن نقول:
إن كلمتي (رب) و (إله) من الألفاظ التي إذا اجتمعت في النص الواحد افترقت في المعنى، وإذا افترقت في النص فذكر أحدهما دون الآخر دخل الآخر في المعنى مثل (الفقير) و (المسكين)، و(التوبة) و(الاستغفار) و(الإيمان) و (الإسلام) ونحو ذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس0ملك الناس0إله الناس)، ولذلك إذا سئل الميت في قبره: (من ربك ؟!) كان المراد من معبودك ؟! وليس المراد من خلقك لأن الكفار يقرون بأن الله هو الخالق.
ومما يدل على أن أحدهما إذا أطلق دخل الآخر فيه حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه حين سمع قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم),قال يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم فقال بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم) الترمذي وحسنه، وحسنه كذلك الألباني في "غاية المرام" برقم (6).
والشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لعدي الآية وفيها ذكر اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباّ من دون الله، ففهم عدي عبادتهم من دون الله فقال: (إنهم لم يعبدوهم) مما يدل على أن (الرب) إذا كان لفظاً مفرداً دخل فيه معنى المعبود.
ومن هنا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما في (الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب) ضمن (الدرر السنية): (فاعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس)، وكما يقال: (رب العالمين وإله المرسلين)، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: (من ربك)، مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)، ونوع واحد في قوله: (افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم).
إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك ؟ معناه من إلهك، لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) وقوله: (قل أغير الله أبغي رباً) وقوله : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)، فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التفطن لهذه المسألة) أ.هـ
هذا ونسأل الله الثبات لنا ولكم على دينه وسنة نبيه محمد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
انتهت الحلقة الثانية من (دروس في التوحيد)
كتبه: أبو عمار علي الحذيفي.
عدن / اليمن.
أبو عمار علي الحذيفي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فهذه هي الحلقة الثانية من (دروس في التوحيد) نـتكلم فيها عن "حقيقة التوحيد الذي بعث الله به الرسل". وتتكون هذه الحلقة من عدة فصول:
الأول: تعريف التوحيد: ويتكون من عدة مباحث:
المبحث الأول: معنى التوحيد.
المبحث الثاني: الأدلة على كلمة "توحيد".
المبحث الثالث: أركان التوحيد.
الثاني: توحيد الربوبية: ويتكون من عدة مباحث:
المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية، وأدلته.
المبحث الثاني: معاني الربوبية ترجع إلى ثلاثة الخلق والملك التدبير.
المبحث الثالث: إقرار المشركين بهذا التوحيد.
المبحث الرابع: إقرار المشركين به كان ناقصاً.
الثالث: توحيد الألوهية: ويتكون من عدة مباحث:
الأول: تعريف توحيد الألوهية، وأدلته.
الثاني: توحيد الألوهية هو المقصد من بعثة الرسل.
الثالث: وقت وقوع الشرك في الأمم، وكيفية وقوعه.
الرابع: خلاصة ما تقدم.
الرابع: توحيد الأسماء والصفات: ويتكون من عدة مباحث:
الأول: تعريفتوحيد الأسماء والصفات، وأدلته.
الثاني: الأمور التي يقوم عليها توحيد الأسماء والصفات.
الخامس: أنواع التوحيد: ويتكون من عدة مباحث:
المبحث الأول: ذكر الأنواع إجمالاً قبل تفصيلها.
المبحث الثاني: أدلة هذا التقسيم.
المبحث الثالث: المنكرون لهذا التقسيم وسبب الإنكار وثمرته.
المبحث الرابع: العلاقة والفرق بين هذه الأنواع الثلاثة.
المبحث الخامس:شبه القوم في نفي هذه الأنواع.
هذا وأسأل الله تبارك وتعالى أن يكتب لها القبول عنده سبحانه، ثم عند خلقه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.
الفصل الأول: تعريـف التوحــيد:
كثير من الناس يعرف فضل التوحيد، لكن صورة التوحيد التي بعث الله بها الرسل وحقيقته غير واضحة عنده، وإذا كان هذا يقع فيه كثير من أصحاب الشهادات ممن ينتسب إلى الفقه والتصوف وغيرهم، فكيف بغيرهم من الناس ؟! ولذلك أحببنا أن نبين "حقيقة التوحيد" في هذه الفصول التي نرجو من الله أن تساعد القارئ المبتدئ على تكوين صورة واضحة عن حقيقة التوحيد التي بعث الله بها الرسل.
المبحث الأول: معنى التوحيد:
التوحيد لغة: مصدر وحد يوحد توحيداً، أي: جعل الشيء واحداً،والتوحيد هو مصدر وحد على وزن فعّل بتشديد العين المهملة، وكل ما كان على وزن (فعّل) فمصدره على وزن (تفعيل) نحو درس يدرس تدريساً، وشغل يشغل تشغيلاً، وكلم يكلم تكليماً ومنه الآية: (وكلم الله موسى تكليماً) ونحو ذلك.
والتوحيد شرعاً: إفراد الله تعالى بما يستحقه من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وهذا يعني تنوع التوحيد إلى ثلاثة أنواع سيأتي الكلام عليها.
فالتوحيد في أصل اللغة والشريعة هو بمعنى الإفراد، فالتوحيد هو إفراده سبحانه بهذه الخصائص التي تفرد بها، فلا يشاركه فيها أحد مهما علت منزلته سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو رجلاً صالحاً.
وينبغي أن يعلم أن التوحيد بأنواعه لا يقوم حتى يجتمع الإقرار به في قلب العبد وعلى لسانه، والعمل به بجوارحه.
قال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب التميمي في "كشف الشبهات": (لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً).
المبحث الثاني: الأدلة على كلمة "توحيد":
يزعم أعداء التوحيد أن كلمة "توحيد" كلمة مبتدعة ليس لها أصل وهذا قول باطل، فإن أصل كلمة التوحيد معروف في اللغة كما تقدم، ومعروف في الشريعة أيضاً، ونحن سنسوق هنا بعض الأدلة على أنها معروفة أيضاً.
أدلة القرآن:
قال تعالى: (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً) وقال تعالى: (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة)وقال تعالى: (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير)وقال: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) وقال: (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء حتى تؤمنوا بالله وحده) وقال: (وما من إله إلا إله واحد) وقال: (وإلهكم إله واحد) وقال: (قل هو الله أحد) ونحو ذلك.
أدلة السنة:
1- قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما أرسله إلى اليمن: (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى) وهو في "الصحيحين" وهذا لفظ البخاري.
2- وقال صلى الله عليه وسلم: (من وحد الله وكفر بما يعبد من دونه، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) رواه مسلم وغيره عن طارق بن أشيم.
3- وفي حديث عمرو بن عبسة الطويل في "صحيح مسلم" وهو حديث مشهور قال عمرو للنبي صلى الله عليه وسلم: (فقلت له ما أنت؟ قال: (أنا نبي) فقلت وما نبي؟ قال: (أرسلني الله) فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: (أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء).
4- وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
5- وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة، وإن هشاماً نحر حصته خمسين بدنة وإن عمرو بن العاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه لنفعه ذلك) رواه أحمد، وهو في "الصحيحة" برقم: (484).
6- وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في "صحيح مسلم" في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (حتى إذا كان بالبيداء أهل بالتوحيد).
المبحث الثالث: أركان التوحيد:
1- ركنا التوحيد النفي والإثبات:
للتوحيد ركنان لا يُستغنى عنهما: الأول: هو النفي، والثاني: هو الإثبات، فلا يكون التوحيد توحيداً إلا بهذين الركنين، فالنفي فيه سلب ما يختص بالله عن غير الله، والإثبات فيه إفراد الله بهذه الأمور.
ونضرب على هذا مثالاً فنقول: لو أردنا أن نفرد زيداً بالعلم من بين الناس في بلد من البلدان، فلا يكفي أن نقول: (زيد عالم) لأن هذا فيه إثبات العلم لزيد لكن ليس فيه إفراد زيد بالعلم فيبقى احتمال أن هناك عالماً غيره، ولو قلنا: (لا عالم في البلد) لكنا قد نفينا العلم عن الجميع، وهذا فيه تعطيل، فالعبارة السـليمة أن نقول: (لا عالم إلا زيد) فنكون قد نفينا العلم عن غير زيد، وأثبتناه له وحده فقط.
ولذلك فألفاظ القرآن كلها في هذا الباب تدل على هذا الإفراد الذي ذكرناه بجميع صوره المعروفة في اللغة العربية، وصوره في اللغة العربية هي:
الأولى: تقديم ما حقه التأخير، مثل الظرف والجار والمجرور، وإنما قلنا حقها التأخير لأنها تأتي دائماً خبراً للمبتدأ على أحد الإعرابين، أو تتعلق بخبر محذوف على الإعراب الآخر، فإذا كانت كذلك فقد تقدمت فهي تفيد الحصر، مثل: (فابتغوا عند الله الرزق) ولم يقل: "فابتغوا الرزق عند الله"، فقوله: "فابتغوا عند الله الرزق" أي: عند الله وحده.
الثانية: أو تقديم المعمول مثل: (إياك نعبد، وإياك نستعين) والشاهد تقديم ضمير النصب، والمعنى: نعبدك وحدك، ونستعين بك وحدك.
الثالثة: النفي ثم الاستثناء، كقوله تعالى: (وما النصر إلا من عند الله)، وسواء كان الاستثناء بإلا أو غيرها من أدوات الاستثناء.
الرابعة: بوجود "إنما" بكسر الهمزة، كقوله تعالى: "يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي".
الخامسة: تعريف المبتدأ والخبر مثل: "الله الصمد"، والصَّمد: هو السيد العظيم الذي تُصْمد إليه الحوائج، أي يُقصد بها، والمعنى الله الذي يقصد بالحوائج، لا يُقصد بالحوائج والسؤال إلا هو وحده.
وإليك بعض هذا الإفراد المستفاد من الصور المتقدمة، فمن ذلك قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وهذا أمر بعبادة الله ونهي عن صرف العبادة لغيره فهذا توحيد، وقوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) وهذا نفي وإثبات فهو توحيد، وقوله: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني لكم نذير مبين) وقوله تعالى: (ألا تعبدوا إلا الله) فيه النهي عن عبادة غير الله والأمر بعبادته وحده فدل على التوحيد، وقوله: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) كذلك، وغير ذلك من الآيات.
2- معنى النفي الكفر بالطاغوت، ومعنى الإثبات والإيمان بالله:
واعلم أن النفي يحمل معنى الكفر بالطاغوت، وأن الإثبات يحمل معنى الإيمان بالله، والكفر بالطاغوت والإيمان بالله هما الجناحان اللذان يطير بهما طائر التوحيد، كما قال تعالى: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) وكلمة التقوى والعروة الوثقى هي لا إله إلا الله، وقال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) فالإيمان بالله وحده متوقف على الكفر بالطاغوت.
ومن هنا نعلم خطورة دعوى "حرية الاعتقاد" على عقيدة التوحيد ومصادمتها لهذه العقيدة العظيمة، لأن الكفر بالطاغوت منـزوع من قانون "حرية الاعتقاد"، فحرية الاعتقاد تعطي الحق لمن شاء أن يعبد ما شاء من الأوثان، في الوقت الذي تمنع الآخرين من الاعتراض عليه أو رد باطله، ولا شك أن هذا مصادم للكفر بالطاغوت الذي هو الركن الأول من أركان التوحيد، لأن الكفر بالطاغوت يوجب على الموحد التبرؤ من عبادة غير الله ومعاداة أهله صراحة وبكل وضوح، وهذا غير ما تجنيه هذه الدعوة المنحرفة على الجهاد في سبيل الله وهدم معالم الشرك، لأنه فرع الكفر الطاغوت.
والخلاصة أن دعوى "حرية الاعتقاد" تجني على مقاصد التوحيد وووسائله، ففيها فساد الدنيا والآخرة.
الفصل الثاني: توحيد الربوبية:
المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية، وأدلته:
1- تعريف توحيد الربوبية:
توحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بأفعاله الدالة على ربوبيته التي لا يشاركه فيها أحد، كخلق الخلق وتدبيرهم والقيام على مصالحهم ومعايشهم وما تفرع من ذلك، لأن الرب عند العرب هو السيد المالك، فمعناه يتعلق بملكه وتدبيره ورعايته.
وأصل هذا التوحيد هو الاعتراف بأن الله هو الرب المتفرد بالخلق والملك والتدبير، ولذلك كان الأصل في هذا التوحيد أنه مما يتعلق بعمل القلب، والبدن تابع له، بخلاف توحيد الألوهية فإنه يتعلق بالقلب والبدن معاً.
2- أدلة توحيد الربوبية:
وتوحيد الربوبية هو إفراد الله تعالى في ثلاثة أمور:
الأول الخلق: أي: أنه لا يقدر على الخلق إلا الله، والأدلة على ذلك كثيرة قال تعالى: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون) وقال تعالى: (أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) وقال: (الله خالق كل شيء) وقال: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) وقال: (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) وقال: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) وقال: (واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون) وقال: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض) وقال: (قل هل من شركاءكم من يبدأ الخلق ثم يعيده) والآيات في ذلك كثيرة.
والمراد بالخلق هنا إيجاد الشيء من العدم وهذا لا يقدر عليه إلا الله، وإنما نقول ذلك لأن القبورية أثبتوا أن هناك من يخلق مع الله، بحجة أن الله أثبت خالقين آخرين غيره سبحانه، واستدلوا بقوله تعالى: (فتبارك الله أحسن الخالقين).
والجواب: أن الخلق الذي ينسب إلى المخلوق هو من باب تحويل الشيء من صورة إلى أخرى، كتحويل الطين إلى إبريق، وتحويل الخشب إلى دولاب، والماء إلى برد وثلج ونحو ذلك، وليس الخلق الذي هو إيجاد الشيء من العدم.
على أنه ينبغي التنبيه إلى أن بعض التحويل من شيء إلى شيء آخر هو بمنزلة إيجاد الشيء من العدم لا يقدر عليه إلا الله فقط، حتى المخلوق لا يقدر عليه، كتحويل النطفة منها إلى علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة إلى عظام العظام إلى لحم ونحو ذلك.
والضابط في ذلك أن المخلوق لا يقدر على تحويل الشيء من صورة إلى أخرى إلا بوجود الأسباب التي هيأها الله، والخالق يقدر على ذلك بقوله كن فيكون.
الثاني الملك: أي: أنه تعالى متفرد بالملك، والأدلة في ذلك كثيرة، قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك) وقال: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) وقال: ( ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) وقال: (ذلكم الله ربكم له الملك) وقال: (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك) وقال: (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء) وقال: (له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى) وقال: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه) والآيات في ذلك كثيرة.
وتأمل في قوله تعالى: (بيده الملك) وقوله: (بيده ملكوت) وقوله: (له الملك) وقوله: (له ملك السموات ..) وقوله: (له ما في السموات والأرض) ونحو ذلك، تعرف إفراد الله بهذه المعاني بما تقدم من أساليب وطرق الإفراد في اللغة.
الثالث التدبير: أي: أنه تعالى متفرد بتدبير الأمور، وتصريف هذا الكون، قال تعالى: (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون) وقال: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يـدبر الأَمـر) والآيات في إثبات تفرد الله بتصريف الأمور، وتدبير المعايش كثيرة.
المبحث الثاني: معاني الربوبية ترجع إلى ثلاثة الخلق والملك والتدبير:
وهناك معاني كثيرة أخرى من معاني الربوبية مثل الرزق والقبض والبسط، والإحياء والإماتة، وهبة الولد، وشفاء المريض، والنصر على العدو ونحو ذلك،وهي كثيرة نذكر منها:
1- الضر والنفع: فقد قال الله تعالى: (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا) وقال تعالى: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) وغير ذلك من الآيات.
والعلة من ذكر تفرده بالضر والنفع أن انتفاء ذلك عن هذه المعبودات دليل على عجزها في نفسها، فضلاً عن أن تملك لغيرها شيئاً، وأن الذي يستحق أن يعبد رغبة ورهبة هو الله لأنه مالك ذلك كله.
2- ومن ذلك الرزق: فهو الذي يسوقه ويأتي به ويسهله للخلائق، وكل ما يجده الناس في معايشهم من الأرزاق فهو من فضله وكرمه سبحانه وحده لا يشاركه في ذلك أحد.
قال تعالى: (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً، فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له) فنفى أن يكون غيره يملك شيئاً من الرزق ولو يسيراً، وعرفنا ذلك بالأسلوب البلاغي في وجود النكرة في سياق النفي فنستفيد العموم أي: لا يملكون رزق المال ولا الأولاد ولا الطعام ولا الشراب ولا العافية ولا غير ذلك، ثم أمر بالتوجه إلى الله وحده وذلك بتقديم ما حقه التأخير حيث قدم الظرف فقال: (عند الله الرزق) ولم يقل: فابتغوا الرزق عند الله.
وقال تعالى: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) فأفرد نفسه بالرزق ونفاه عن غيره، لأن هذا استفهام يراد به النفي، ومن ذلك قوله تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) وغير ذلك.
3- ومن ذلك شفاء المريض: فهو وحده الذي يشفي من المرض كما قال تعالى عن إبراهيم: (وإذا مرضت فهو يشفين) وفي الرقية كما في الحديث: (لا شفاء إلا شفاؤك).
4- ومن ذلك كشف الضرر: فإنه لا يقدر عليه إلا الله، كما قال تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) وقال: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره) وقال: (فلما كشفنا عنهم الرجز) وقال تعالى: (فلما كشفنا عنه ضره) وغير ذلك من الآيات.
5- ومن ذلك أنه هو المتفرد بالرفع والخفض: كما قال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) وقال: (ورفعنا لك ذكرك) وقال: (نرفع درجات من نشاء) وقال: (تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء) إلى غير ذلك من الآيات.
6- ومن ذلك هبة الولد وإخراجه من بطن أمه: قال تعالى: (يهب لم يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور) وقال عن زكريا عليه السلام: (فاستجبنا له ووهبنا له يحي) وقال: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) وقال: (ثم السبيل يسره) وقال: (ثم نخرجكم طفلاً).
7- ومن ذلك هداية القلوب وتسديدها وتوفيقها: قال تعالى: (من يهد الله فهو المهتد) ويقول: (إنك لا تهدي من أحببت) وقال: (وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) وغير ذلك من الآيات.
8- ومن ذلك النصر على العدو: كما قال تعالى: (وما النصر إلا من عند الله) وقال: (ما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) وقال: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده).
9- ومن التأليف بين القلوب: كما قال تعالى: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) وقال: (واذكروا إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً).
وغير ذلك من معاني الربوبية كالإحياء والإماتة، والقبض والبسط، والإعطاء والمنع وغير ذلك،وكلها ترجع إلى الخلق والملك والتدبير.
المبحث الثالث: إقرار المشركين بهذا التوحيد:
والمشركون كانوا يقرون بربوبية الله تعالى، وأنه خالق كل شيء كما في كثير من الآيات، منها قوله سبحانه وتعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) وقوله سبحانه وتعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) وقوله سبحانه وتعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون0سيقولون لله قل أفلا تذكرون0قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم0سيقولون لله قل أفلا تتقون0قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون0سيقولون لله قل فأنى تسحرون).
فهؤلاء الآيات بينت أن الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى هو الرب المتفرد بالخلق والملك والتدبير كان مستقراً في نفوس المشركين، وأنهم لم يكونوا ينازعون في قضية ربوبية الله سبحانه وتعالى، ولم ينازعوا في أنه رب السموات والأرض، وأنه خالق الخلق ورازقهم سبحانه وتعالى، وإنما كانوا ينازعون في توحيد الله بالعبادة، فهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأوثان والأصنام.
قال شيخ الإسلام كما "مجموع الفتاوى"(3/97): (وقد أخبر سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه فى كتابه). ثم ساق بعض الآيات الدالة على ذلك.
وقال النعمي في "معارج الألباب إلى مناهج الحق والصواب": (ولقد تتبعنا في كتاب الله فصول تراكيبه، وأصول أساليبه، فلم نجده تعالى حكى عن المشركين أن عقيدتهم في آلهتهم وشركائهم التي عبدوها من دونه أنها تخلق وترزق وتحي وتميت وتنزل من السماء ماء، وتخرج الحي من الميت، والميت من الحي).
وقال: (ومن أمعن النظر في آيات الكتاب وما قص من محاورات الرسل مع أممهم وجد أن أس الشأن، ومحط رحال القصد شيوعاً، وكثرة وانتشاراً وشهرة هو دعاء الله وحده وإخلاص العبادة له).
ونحب أن ننبه إلى أننا نقول: إن المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، ولا يلزم من ذلك أنهم كانوا موحدين توحيداً صحيحاً مقبولاً.
وهناك شبهة للقبوريين في هذا العصر الذين ينكرون تقسيم التوحيد إلى عدة أقسام، والآيات التي فيها اعتراف المشركين ترد عليهم، لذلك قالوا: هذا الإقرار إنما قاله مشركو قريش نفاقاً، ولم يكونوا يعترفون بذلك في قرارة نفوسهم.
ويكفي أن نذكر وجهين في الجواب عن هذه الشبهة: الأول: هؤلاء الآيات مكية، والنفاق لم يظهر في مكة، وإنما ظهر في المدينة عندما قوي الاسلام بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، فخاف بعض الناس أن يظهر الكفر فكان ينافق، أما في مكة فكانوا يجاهرون بالكفر، فما هناك أي ضرورة تحتم عليهم أن ينافقوا.
الثاني: أنهم لو كانوا منافقين في هذا الاعتراف والإقرار لعقَّب عليهم ربنا سبحانه وتعالى، وبين أنهم يقولون هذا عن نفاق لا عن تسليم وقناعة، وقد بين سبحانه وتعالى في أكثر من آية ما يقوله المنافقون من الكذب ويتعقبهم سبحانه وتعالى كما في قوله سبحانه وتعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا) قال الله عز وجل بعدها: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم).
وآية أخرى وهي قوله سبحانه وتعالى: (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون)، والشهادة: هي تواطؤ اللسان والقلب على شيء، ومن المعروف أن المنافقين يقولون هذا بألسنتهم دون الإقرار بقلوبهم، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذه الأقوال يقولها المنافقون عن غير اعتقاد، وأنهم يكذبون في هذا الشهادة، فمن هنا نعرف أن إقرار كفار العرب بالربوبية عن إقرار حقيقي منهم، فلو كان كفار قريش كاذبين في هذا الإقرار لما أقرهم الله عز وجل.
المبحث الرابع: إقرار المشركين به كان ناقصاً:
وأيضاً نريد أن ننبه إلى مسألة مهمة وهي أن مشركي العرب عموماً، و مشركي قريش خصوصاً كانوا مقرين بتوحيد الربوبية بالجملة ولكن لم يكونوا مقرين به كاملاً، ولم يقروا به على الوجه المطلوب، بل كان عندهم خلل في توحيد الربوبية.
فمثال ذلك: أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، فقد آمنوا بأن الله خلقهم لكن لم يؤمنوا بأن الله سيبعثهم، فهم آمنوا بالمبدأ ولم يؤمنوا بالمعاد، وأيضاً كانوا يستسقون بالأنواء بحيث إنهم يستسقون ببعض النجوم وبعض الأنواء والمنازل، كذلك كانوا يعلقون التمائم، والتمائم: "جمع تميمة وهي ما يعلقها الإنسان من جلد أو من خشب أو غير ذلك يريد بها دفع ضرر يتوقع حصوله، أو رفع ضرر قد حصل" فهم يعلقونها ويعتقد بعضهم أنها تنفع بإذن الله أو بنفسها، وكان فيهم التطير، وكان فيهم أشياء أخرى مما يخل بتوحيد الربوبية، ولكن بالجملة كان عندهم الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى هو الرب الخالق والمالك والرازق والمتصرف في هذا الكون سبحانه وتعالى.
قال شيخ الإسلام كما في "درء تعارض العقل والنقل" (5/156): (وهم مع شركهم وما يلزمهم من نوع تعطيل في الربوبية لا يثبتون مع الله شريكاً مساوياً له في أفعاله ولا في صفاته).
وقال المقريزي في "تجريد التوحيد المفيد": (فأبان سبحانه بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الألوهية لا توحيد الربوبية، على أن منهم من أشرك في الربوبية كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله).
الفصل الثالث: توحيد الألوهية:
المبحث الأول: تعريف توحيد الألوهية، وأدلته:
1- تعريف توحيد الألوهية:
توحيد الألوهية: هو إفراد الله بأفعال العباد، أي: بعبادتهم فقط، وليس المقصود إفراده تعالى بجميع أفعال العباد، فإن من أفعالهم ما هو من قسم المباحات كالأكل والشرب وغيرهما.
وهذا التوحيد هو معنى لا إله إلا الله، فإن هذه الكلمة تدل على توحيد الألوهية بدلالة المطابقة كما تقدم.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: (وأحسن ما يعرف هذا التوحيد هو قوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وقوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) أ.هـ
ويسمى توحيد الألوهية والإلهية وتوحيد العبادة ونحو ذلك.
قال الشيخ ابن سعدي في "القواعد الحسان": (ويقال له توحيد الإلهية، فإن الإلهية وصفه تعالى الذي ينبغي أن يؤمن به كل بني آدم، ويوقنوا أنه الوصف الملازم له سبحانه الدال عليها الاسم العظيم وهو الله، وهو مستلزم جميع صفات الكمال، ويقال له: توحيد العبادة باعتبار وجوب ملازمة وصف العبودية بكل معانيها للعبد بإخلاص العبادة لله تعالى، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفاً بربه، مخلصاً جميع عبادته محققاً ذلك بترك الشرك صغيره وكبيره).
2- أدلة توحيد الألوهية:
وهذه الألوهية تعني تفرد الرب بحق العبادة فلا يشاركه في ذلك أحد، قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وقال: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) وقال: (إن الحكم إلا لله أمر أن لا تعبدوا إلا إياه) وقال: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم) – إلى قوله: - (فلا تجعلوا لله أنداداً) وقال: (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) وقال: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دونه) وقال: (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، إليه أدعو وإليه مآب) وقال: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) وقال: (واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه أن لا تعبدوا إلا الله) وقال الله عن الكفار أنهم قالوا: (أجئتنا لنعبد الله وحده).
الثاني: توحيد الألوهية هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل:
1- توحيد الألوهية هو دعوة الرسل في الأصل:
والمقصود الأعظم من دعوة الرسل هو تحقيق هذا التوحيد، وإن كانوا أيضاً قد جاءوا لتحقيق سائر أنواع التوحيد، لكن هذا التوحيد كان في المقدمة لأن الشرك الذي وقع للأمم كان من جهته.
فتوحيد العبادة أمرت به جميع الشرائع، وأقامته جميع الملل كما قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وقال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)وقال تعالى: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) وغير ذلك من الآيات، وقد تقدم هذا في الدرس الأول "مكانة التوحيد".
والمشركون أنفسهم فهموا هذا الذي ذكرناه من أن الرسل بعثوا لينهوا أممهم عن عبادة غير الله فقال الله عنهم: (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) وقال: (أجعل الآلهة إلهاً واحداً).
2- أسلوب القرآن في الدعوة إلى الألوهية:
وللقرآن أسلوب خاص في دعوته إلى توحيد الألوهية فمن ذلك:
1- إلزام من أقر بالربوبية بتوحيد الألوهية، فالله يعلم أن مشركي قريش يقرون في باب الربوبية بالجملة، ويعلمون في قرارة أنفسهم أنه لا يشارك الله أحد في ربوبيته للخلائق، فجعل إقرارهم هذا ملزماً لهم في توحيد العبادة في أكثر من آية.
قال شيخ الإسلام كما "مجموع الفتاوى" (14/180): (أما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون وكانوا يعبدون مع الله غيره ويحبونهم كما يحبونه، فكان ذلك التوحيد - الذي هو توحيد الربوبية - حجة عليهم).
وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين" (56-57): (ولهذا كانت لا إله إلا الله أفضل الحسنات، وكان توحيد الإلهية الذي كلمته لا إله إلا الله رأس الأمر، فأما توحيد الربوبية الذي أقر به كل المخلوقات فلا يكفي وحده وإن كان لا بد منه وهو حجة على من أنكر توحيد الألوهية).
ومن هؤلاء الآيات قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) والمراد كما أشار غير واحد من المفسرين أنه إذا أقررتم أنه الخالق لكم ولغيركم فكيف تعبدون غيره ؟!
قال ابن كثير عند هذه الآية: (ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غَيره).
وقال رحمه الله عند آيتي العنكبوت (ولئن سألتهم): (وكثيراً ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية فإن المشركين كانوا يعترفون بذلك).
2- ومنها بيان أن الله خلق الخلق لعبادته وحده سبحانه، وأن الذي صرف العبادة لغيره لم يحقق العبودية المطلوبة لله والعبادة المطلقة، وأن الله لم يخلق الناس عبثاً، ولم يتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون، بل خلقهم لعمارة هذا الكون بالطاعة والعبادة.
3- ومنها أنه خاطبهم على قدر عقولهم فضرب له الأمثلة الكثيرة ومنها: أنه أخبر أن السيد كما أنه لا يسره أن يشاركه عبده ومملوكه في ماله فكذلك الله جل وعلا لا يحب أن يشاركه أحد، فهكذا الرب الذي يخلق الخلق ثم يعبدون غيره.
قال تعالى: (ضَرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون).
قال ابن كثير في "تفسيره": (هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ملك له، لا يرتضي أحد منكم أن يكون عبده شريكًا له في ماله، فهو وهو فيه على السواء، تخافون أن يقاسموكم الأموال) أ.هـ
3- خطأ من يرى أن توحيد الربوبية هو غاية دعوة الرسل وغيرها:
وهناك من الطوائف من ترى أن الغاية الذي بعث الله لها الرسل هو الإيمان بأن الله هو الخالق والمدبر للخلائق وهذا غير صحيح.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (3/97-98): (وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد، فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد فى كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع: فيقولون هو واحد فى ذاته لا قسيم له، وواحد فى صفاته لا شبيه له، وواحد فى أفعاله لا شريك له.
وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا: (لا اله الا الله) حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع.
ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه و سلم أولا لم يكونوا يخالفونه فى هذا بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى أنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا وهم مع هذا مشركون، فقد تبين أن ليس فى العالم من ينازع فى أصل هذا الشرك) أ.هـ
وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين" (ص30): (وغاية هذا الفناء في توحيد الربوبية وهو أن لا يشهد رباً وخالقاً ومدبراً إلا الله، وهذا هو الحق ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفي في النجاة فضلاً عن أن يكون شهوده والفناء فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم، فالغاية التي لا غاية وراءها ولا نهاية بعدها الفناء في توحيد الإلهية).
وقال ابن القيم في "طريق الهجرتين" (56-57): (ولهذا كانت لا إله إلا الله أفضل الحسنات، وكان توحيد الإلهية الذي كلمته لا إله إلا الله رأس الأمر، فأما توحيد الربوبية الذي أقر به كل المخلوقات فلا يكفي وحده وإن كان لا بد منه وهو حجة على من أنكر توحيد الألوهية).
الثالث: وقت وقوع الشرك في الأمم، وكيفية وقوعه:
روى البخاري في "صحيحه" برقم: (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجالسهم التى كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت).
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (1/167): (وقد استفاض عن ابن عباس وغيره في "صحيح البخاري" وفي كتب التفسير وقصص الأنبياء في قوله: (وقالوا لا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) أن هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم، قال ابن عباس: ثم صارت هؤلاء الأوثان في قبائل العرب) أ.هـ
ثم جاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فبقي الناس على ملته حتى جاء من غير ملته فأحيى عبادة الأصنام مرة أخرى، وكان أول من أحيا عبادة الأصنام بين العرب هو عمرو بن لحي الخزاعي، فقد كان الناس على ملة إبراهيم حتى جاء هذا الرجل فأخرجها في بعض أسفاره من الرمال بوحي من الشيطان فنقلها إلى جزيرة العرب، ودعا الناس إلى عبادتها فاستجابوا له لما له بينهم من جاه وسلطان.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": (وقد أخرج الفاكهي من طريق ابن الكلبي قال: " كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة ثم ائت سِيْفَ جدَّة، تجد بها أصناماً معدة، ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب، قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفى عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم فدعا إلى عبادتها فأجيب) أ.هـ
المبحث الرابع: خلاصة ما تقدم:
حتى لا يبقى القارئ مشتتاً بين هذه المباحث أحببنا أن نلخص له ما تقدم ذكره إلى أمور، فنقول وبالله التوفيق:
الأول: أن الناس كانوا على الفطرة والتوحيد حتى وقع الشرك في قوم نوح أو قبلهم بقليل ثم سارت الأمم على هذه الطريقة، يخرجهم الشيطان عن فطرتهم بهذا النوع من الشرك.
الثاني: أن شركهم لم يكن من جهة اعتقاد أن هناك من يتصرف في هذا الكون مع الله أو أنه يخلق أو يرزق أو غير ذلك من معاني الربوبية، وإنما لكونهم صرفوا العبادة لغير الله.
الثالث: أن عباد الأوثان لم يكونوا يعتقدون أن هذه المعبودات تضر وتنفع بنفسها، ولكن صرفوا لها العبادة لتقربهم إلى الله زلفى فقط، لما يرونه من فضل هؤلاء الصالحين وقربهم من الله.
الرابع: أن الرسل إنما جاءت لإفراد الله بالعبادة، وبينت أن صرف العبادة لغير الله من الشرك العظيم الذي يوجب قتال أهله، وأن حسن النية التي يتحجج بها هؤلاء لا تنفعهم عند الله.
وقد تشذ عما ذكرناه بعض الصور، ولكن هذا نادر ولا يؤثر فيما تقدم، والأصل ما ذكرناه.
الفصل الرابع: توحيد الأسماء والصفات:
الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات، وأدلته:
1- تعريف توحيد الأسماء والصفات:
وتوحيد الأسماء والصفات: هو إفراد الله تعالى بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، مع الإقرار بمعانيها إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل.
والأسماء: هي الكلمات الدالة على ذاته مثل الرحمن والرحيم والعزيز والغفور ونحوها.
والصفات: هي المعاني القائمة بالذات كالرحمة والعزة ونحوهما.
وهذا التوحيد مندرج في الأصل في توحيد الربوبية.
قال الشيخ الفوزان في "شرح كتاب التوحيد": (النوع الثالث: وهو توحيد الأسماء والصفات، فهو في الحقيقة داخل في توحيد الربوبية، ومن أجل هذا بعض العلماء يجمل ويجعل التوحيد نوعين:
توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات وهو التوحيد العلمي، وتوحيد في الطلب والقصد وهو التوحيد الطلبي العملي، وهو توحيد الألوهية) أ.هـ
2- أدلتــه:
وعندنا على هذا التوحيد أدلة كثيرة مستفيضة من الكتاب والسنة كقوله تعالى: (ولله المثل الأعلى) أي: الوصف الأعلى وقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) وقوله: (ولم يكن له كفوا أحد) وقوله: (هل تعلم له سمياً) وقوله: (فلا تجعلوا لله أنداداً) والند يكون في الصفات كما يكون في الربوبية والألوهية، ونحو ذلك من الأدلة التي تبين تفرده بهذه الأسماء والصفات التي سمى بها نفسه بها أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: الأمور التي يقوم عليها توحيد الأسماء والصفات:
وتوحيد الأسماء والصفات مبني على أمور لا يقوم توحيد الأسماء والصفات إلا بها:
الأول: أن يثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وينفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن نعتقد أن هذه الأسماء والصفات خاصة بالله، لا يشاركه فيها أحد من الخلق مهما علت منزلته، أو عظمت مكانته، فلا نصف أحداً من الخلق بعلم الغيب أو العلو المطلق أو الاستواء على العرش أو نحو ذلك من الصفات، ولا نسميه بالأسماء الخاصة بالله كالرحمن أو الإله أو الرب أو الله أو نحو ذلك من الأسماء.
الثالث: إثبات المعاني الواردة في النصوص على ما يليق بالله تعالى إثباتا بلا تمثيل.
الرابع: أن نفوض الكيفية فلا نخوض فيها لأننا لا نعلمها كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول).
فإذا سار العبد على هذه الأصول العظيمة سلم له معتقده في باب "الأسماء والصفات".
الفصل الخامس: أنواع التوحيد:
المبحث الأول: ذكر أنواع التوحيد إجمالاً قبل تفصيلها:
التوحيد ثلاثة أنواع هي: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع الثلاثة لابد للعبد من الإتيان بها كلها، ولا نجاة له إلا بذلك.
وفي الوقت نفسه لا بد من التفريق فيما بينها، بمعنى أنها ليست توحيداً واحداً كما يظن من لم يعرف حقيقة التوحيد، فبعض الطوائف يظنون أن توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية واحد لا فرق بينهما، ولذلك فهم يرون غاية دعوة الرسل هو الإيمان بأن الله هو الخالق، وأن من آمن بذلك فقد أتى بكلمة التوحيد، فأنتج هذا القول ثماراً سيئةً منها أن التوحيد المطلوب من الناس أن الله هو الخالق القادر على خلق الشيء من العدم، وعليه فإنهم لا يعدون صرف شيء من العبادة لغير الله مناقضاً للتوحيد.
ونحن سنذكر هذه الأنواع الثلاثة مع ذكر ما استطعنا من الأدلة عليها، والله الموفق.
المبحث الثاني: أدلة هذا التقسيم:
تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام دليله ثلاثة أشياء: الاستقراء التام، ودلالة كلمة لا إله إلا الله، وتنصيص السلف وأئمة الدين والعلم.
الدليل الأول الاستقراء التام:
والاستقراء التام: هو الحكم على شيء كلي بواسطة إثباته بالتتبع والتصفح لجميع الجزئيات، وهو حجة بإجماع الأصوليين.
قال الشنقيطي في "الأضواء": (وقد تقرر في الأصول: أن الاستقراء من الأدلة الشرعية، ونوع الاستقراء المعروف عندهم بالاستقراء التام حجة بلا خلاف، وهو عند أكثرهم دليل قطعي).
وقال الشنقيطي في "الأضواء" في موضع: (وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون) وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله: (قال فرعون وما رب العالمين) تجاهل من عارف أنه عبد مربوب بدليل قوله تعالى: (قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر)، وقوله: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً) وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله. كما قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً.
الثاني: توحيده جل وعلا في عبادته، وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى: (لا إله إلا الله) وهي متركبة من نفي وإثبات، وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب).
النوع الثالث: توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته، وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم، كما قال تعالى: (ليس كمثله شيء).
والثاني: الإيمان بما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله، كما قال بعد قوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) أ.هـ باختصار.
وأقول إن كثيراً من أبواب العلم بنيت على الاستقراء، ومن ذلك أن النحويين قسموا الكلمة إلى ثلاثة أقسام: اسم وفعل وحرف، ودليلهم على هذا استقراء تام لكلام العرب، والصوفية القبورية يسلمون بهذا التقسيم ولا يناقشون فيه، وحجة هذا التقسيم هو حجة تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، مع أن تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام أظهر وأبين وأوضح، لأن أدلته هي الكتاب والسنة وقد نطق به السلف الصالح، وسيأتي معنا بعض الآيات الدالة على هذا الشيء.
وإذا قلنا: إن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح، فهل يمكن أن يقال: إن هذا لم ينص عليه الشرع وإنما هو تثليث، وإن كان العلماء يستندون في ذلك التقسيم إلى نصوص الشريعة ويعتمدون على استقراء تام لها ؟!
فقولنا: "الإيمان: قول وعمل واعتقاد" لم يدل عليه دليل شرعي يحمل هذا اللفظ، وإنما هو مأخوذ من جملة الأدلة، ومعتمد على استقرائها، وإنما ذكر العلماء هذا التفصيل لما ظهرت الأقوال الزائغة.
وأيضاً تقسيم الكلمة إلى ثلاث أقسام: الاسم، والفعل، والحرف الذي جاء لمعنى، وهو شيء يعرفه "الصوفية"، فهل العرب نصت على هذا التقسيم بعينه ؟!
وأيضاً أغلب هؤلاء القبوريين على عقيدة "الأشاعرة" وهم يقولون: إن توحيد الله ينبني على ثلاثة أشياء:
توحيد الذات، توحيد الصفات، توحيد الأفعال، وهذا التقسيم عليه ملاحظات كثيرة من حيث هو، ولكن أردنا أن نبين أن القبوريين المنكرين للتقسيم العلمي للتوحيد، هم أنفسهم يقرون بتقسيم آخر وإن كان ليس مبنياً على أسس صحيحة.
الدليل الثاني دلالة كلمة "لا إله إلا الله":
فكلمة التوحيد تدل على إفراد الله بالعبادة بدلالة المطابقة، لأن معنى "كلمة التوحيد": "لا إله إلا الله" هو إفراد الله بحق العبادة ونفي هذا الحق عن غيره، و"الإله" لا يكون مستحقاً لهذه العبادة إلا إذا كان رباً خالقاً مدبراً لمصالح عباده، فهذا توحيد الربوبية وقد عرفناه بدلالة التضمن، والرب موصوف بصفات الكمال والجلال، وهذا توحيد للأسماء والصفات، وقد عرفناه بدلالة الالتزام.
الدليل الثالث: طريقة السلف، وتنصيص الأئمة:
قال سبحانه وتعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) فأثبت سبحانه وتعالى في الآية إيماناً للمشركين من جهة، وشركاً وقعوا فيه من جهة أخرى، فقد قال العلماء في معنى الآية: (وما يؤمن أكثرهم بالله) أي: في جانب الربوبية (إلا وهم مشركون) أي: في جانب العبادة.
قال ابن كثير في تفسيره في "تفسيره" "سورة يوسف" قال ابن عباس: "من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم: من خلق السموات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال ؟ قالوا: الله، وهم مشركون به" يعني في العبادة).
قال ابن كثير: (وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم).
وللأئمة كلام نصوا على هذا التفصيل والتقسيم ونقلوه عن غيرهم، ويكفي أن أذكر ثلاثة من هؤلاء الأئمة الذين شهد لهم الناس بإمامتهم بالعلم، وسنشير إلى الباقي:
1- ما قاله الطحاوي في أول "عقيدته": (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولاشيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره).
فقوله: (ولا شيء مثله) فيه الإشارة إلى توحيد الأسماء والصفات، وقوله: (ولا شيء يعجزه) فيه إشارة إلى توحيد الربوبية، وقوله: (ولا إله غيره) فيه إشارة إلى توحيد الألوهية.
وهذا التفصيل عليه أئمة الحنفية وهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت، ثم محمد بن الحسن، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، وقد أشار الطحاوي في مقدمة "عقيدته" إلى أن رسالته هذه هي على معتقد الأئمة الثلاثة.
2- ما قاله ابن بطة في "الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية": (وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجب على الخلق اعتقاده في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء:
أحدها: أن يعتقد العبد ربانيته ليكون بذلك مبايناً لمذهب أهل التعطيل الذين لا يثبتون صانعاً.
والثاني: أن يعتقد وحدانيته، ليكون مبايناً بذلك مذاهب أهل الشرك، الذين أقروا بالصانع وأشركوا معه في العبادة غيره.
والثالث: أن يعتقده موصوفاً بالصفات التي لا يجوز إلا أن يكون موصوفاً بها من العلم والقدرة والحكمة، وسائر ما وصف بها نفسه في كتابه.
إذ قد علمنا أن كثيراً ممن يقر به ويوحده بالقول المطلق قد يلحد في صفاته فيكون إلحاده قادحاً في توحيده، ولأنا نجد الله تعالى قد خاطب عباده بدعائهم إلى اعتقاد كل واحد من هذه الثلاث، والإيمان بها) أ.هـ
3-قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرهاً) من آل عمران (3/336): (وله خشع من في السموات والأرض، فخضع له بالعبودية وأقر له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية طوعاً وكرهاً) أ.هـ
وقد كرر هذا الأسلوب في عدة مواضع: عند آية النساء: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) وعند آية الكهف: (فليعمل عملاً صالحاً) وعند آية (ص) (وما من إله إلا الله الواحد القهار) وغيرها.
وهذا صنيع أهل العلم في كتبهم، ومن هؤلاء الإمامان ابن منده وابن خزيمة، فمن تأمل كتابيهما في "التوحيد" وتبويباتهما رأى ما ذكرناه من قبل.
المبحث الثالث: المنكرون لهذا التقسيم، وسبب إنكارهم وثمرته:
1- المنكرون لهذا التقسيم وسبب إنكارهم:
هناك من أهل الضلال ولاسيما من المتأخرين من ينكر هذا التقسيم المذكور، بل ويشبهه بتثليث النصارى والعياذ بالله، وهم عباد القبور والمفتونون بأضرحة الأولياء والصالحين.
والذي يظهر أن المتأخرين منهم إنما أنكروا ذلك لأن هذا التقسيم يكشف شركهم وما هم عليه من عبادة غير الله، ولذلك هم يقولون: "كيف يكون من يستغيث بالصالحين مشركاً وهو يؤمن بالله رباً وخالقاً ؟!!".
فإذا عرف المسلم "أقسام التوحيد" المذكورة عرف أن القوم يوحدون في باب الربوبية بالجملة، ويشركون في باب العبادة، كحال المشركين الأوائل تماماً، بل الشرك عند المتأخرين في باب "الربوبية" أكثر من الشرك عند مشركي قريش وغيرهم، على أن توحيد الربوبية وحده لا ينفع صاحبه ولا يخرجه من الكفر إلى الإسلام ولا يقيه من الخلود من النار، ولذلك يسميه بعض العلماء توحيد المشركين.
قال شيخ الإسلام كما "مجموع الفتاوى"(3/105): (فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا اله الا الله فلا يستحق العبادة أحد الا هو، وأن محمداً رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فلا بد من الكلام فى هذين الأصلين).
وقال رحمه الله كما "مجموع الفتاوى" (14/179-180): (فهذا التوحيد توحيد الإلهية يتضمن فعل المأمور و ترك المحظور... وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين و المشركين وعليه يقع الجزاء والثواب فى الأولى والآخرة فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين فان الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
أما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون وكانوا يعبدون مع الله غيره) أ.هـ
2- ثمرة إنكارهم:
ولقد كان لهذا الإنكار ثمار سيئة على عقائد القوم، وهي كثير ولكن أكتفي بذكر بعضها:
الأول: عدم التفريق بين أنواع التوحيد، واعتقادهم أن الدعوة إلى كلمة التوحيد هي الدعوة إلى الإيمان بأن الله هو الخالق، وأن من آمن بذلك فقد دخل الإسلام وأتى بكلمة التوحيد.
الثاني: اعتقادهم بأن الرسول إنما قاتل المشركين لأنهم اعتقدوا أن الأوثان شركاء لله في خلق العالم وتدبيره، وأن اتخاذ المتأخرين الأنبياء والصالحين وسائط فيما بينهم وبين الله لا يضر إيمانهم، ما دام أنهم لم يعتقدوهم شركاء في خلق العالم وتدبيره.
الثالث: فهموا أن العبادة لله هي مجرد الخضوع للرب، والاعتراف بأفعال الرب مثل الرزق والإحياء والإماتة والنفع والضر، وأن صرف بعض الأعمال كالدعاء والذبح والنذر لا يضر.
المبحث الرابع: العلاقة والفرق بين هذه الأنواع الثلاثة:
تقدم في الكلام على دلالة (لا إله إلا الله) بيان نوع العلاقة بين أنواع التوحيد الثلاثة، فتوحيد الربوبية هو الأصل، فحق العبادة إنما ثبت بعد ثبوت الربوبية له سبحانه.
ويمكن تلخيص العلاقة بين أنواع التوحيد إلى أمور:
الأول: أن توحيد الربوبية يدل على توحيد الألوهية بدلالة الالتزام، بمعنى أن الإقرار بتوحيد الربوبية يوجب القيام بتوحيد الألوهية، فمن عرف أن الله ربه وخالقه ومدبر أموره لزم إفراده بالعبادة، ولذلك اتخذه الله حجة على المشركين فألزمهم بتوحيد الألوهية.
قال شيخ الإسلام كما "مجموع الفتاوى" (14/180): (أما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون وكانوا يعبدون مع الله غيـره ويحبونهم كما يحبونه، فكان ذلك التوحيد - الذي هو توحيد الربوبية – حجة عليهم، فإذا كان الله هو رب كل شيء و مليكه، ولا خالق ولا رازق إلا هو، فلماذا يعبدون غيره معه؟ وليس له عليهم خلق ولا رزق ولا بيده لهم منع ولا عطاء بل هو عبد مثلهم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً) أ.هـ
الثاني: توحيد الألوهية يدل على توحيد الربوبية بالتضمن، أي: من عبد الله وحده لا شريك له فلابد أن يكون معتقداً أنه ربه وخالقه ورازقه، إذ لا يعبد إلا من بيده النفع والضر، وله الخلق والأمر.
الثالث: توحيد الربوبية ومثله توحيد الأسماء والصفات عمل قلبي في الأصل، لأنه قائم على الإقرار والاعتراف والإثبات، ولذا سمي توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي، أما الألوهية فهو عمل قلبي وبدني لأنه قائم على التوجه إلى الله بالعبادة، فلا يكفي فيه عمل القلب، ولذلك سمي توحيد القصد والطلب.
المبحث الخامس: شبهة القوم في نفي هذه الأنواع:
ولهؤلاء القوم شبهات أثاروها على هذا التقسيم ظنوا أنها تنافي هذا التقسيم أو تصادمه فقد زعموا أن الرسل جاءوا لدعوة الناس إلى الإيمان بأن الله هو الخالق لكل شيء، لأن المشركين لم يكونوا يؤمنون بذلك.
وقالوا: إن الله قال في كتابه عن هؤلاء المؤمنين: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله)وقال: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) فدل على أن المعركة كانت بين الرسل والمشركين في أصل الإيمان بالله، وأن هؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله !!
والجواب عن الطرف الأول أن نقول:
إن هذا الذي قالوه غير صحيح لعدة أمور: منها أن هذا قول ليس له دليل يعتمد عليه، وهذا الوجه وحده كاف في نقض دعواهم، ومنها أن هذا مناقض تماماً للمعلوم من حياة الناس في عهده وقبل وبعد عهده صلى الله عليه وسلم، فمشركو "مكة" كأبي جهل وغيره، ومشركو سائر قبائل العرب كانوا يعرفون إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنه مرسل من ربه، ويعظمون البيت الحرام، ويعلمون أن لهذا البيت رباً يحميه كما قال عبد المطلب لأبرهة، وهم يحجون هذا البيت ويكرمون من يأتيه من الحجاج، ويحلفون بالله في أيمانهم، ويخافون اليمين الغموس، ويخافون دعوة المظلوم ولاسيما عند البيت الحرام.
ومشركو العرب كانوا يعرفون أنواعاً من العبادات يتقربون بها إلى الله، فقد قال حكيم بن حزاملرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت أمورا كنت أتحنث - أي: أتعبد - بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء؟ - أي: من الأجور والثواب - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير" وهو متفق عليه.
ومن ذلك النذر، ألم يقل عمر: "إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام" فقال رسول الله عليه وسلم: "أوف بنذرك" والحديث متفق عليه.
ومن ذلك الصيام، قالت عائشة رضي الله عنها:"كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية" والحديث متفق عليه.
وغير ذلك من الدلائل التي تدل على أن المشركين كانوا يعرفون الله في الجاهلية، وهذا أشهر من أن يستدل له، وإنما كانوا يعبدون الأوثان لأنهم يعتقدونها تمثل أرواح رجال صالحين يشفعون لهم عند الله كما ذكر ذلك ربنا في كتابه الكريم حيث قال: (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، لكنهم (إذا ركبوافي الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) وتركوا ما هم عليه من الشرك، فجاءت الرسل تدعو الناس إلى عبادة الله وحده، ونبذ ما يعبد من دونه من الأوثان والأصنام، فهذا هو موضع النزاع بين الرسل وأممهم، ولاسيما بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والكفار.
والجواب عن الطرف الثاني أن نقول:
إن كلمتي (رب) و (إله) من الألفاظ التي إذا اجتمعت في النص الواحد افترقت في المعنى، وإذا افترقت في النص فذكر أحدهما دون الآخر دخل الآخر في المعنى مثل (الفقير) و (المسكين)، و(التوبة) و(الاستغفار) و(الإيمان) و (الإسلام) ونحو ذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: (قل أعوذ برب الناس0ملك الناس0إله الناس)، ولذلك إذا سئل الميت في قبره: (من ربك ؟!) كان المراد من معبودك ؟! وليس المراد من خلقك لأن الكفار يقرون بأن الله هو الخالق.
ومما يدل على أن أحدهما إذا أطلق دخل الآخر فيه حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه حين سمع قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم),قال يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم فقال بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم) الترمذي وحسنه، وحسنه كذلك الألباني في "غاية المرام" برقم (6).
والشاهد من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لعدي الآية وفيها ذكر اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباّ من دون الله، ففهم عدي عبادتهم من دون الله فقال: (إنهم لم يعبدوهم) مما يدل على أن (الرب) إذا كان لفظاً مفرداً دخل فيه معنى المعبود.
ومن هنا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما في (الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب) ضمن (الدرر السنية): (فاعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس)، وكما يقال: (رب العالمين وإله المرسلين)، وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل: (من ربك)، مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين)، ونوع واحد في قوله: (افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم).
إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر: من ربك ؟ معناه من إلهك، لأن الربوبية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله: (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) وقوله: (قل أغير الله أبغي رباً) وقوله : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)، فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التفطن لهذه المسألة) أ.هـ
هذا ونسأل الله الثبات لنا ولكم على دينه وسنة نبيه محمد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
انتهت الحلقة الثانية من (دروس في التوحيد)
كتبه: أبو عمار علي الحذيفي.
عدن / اليمن.

الاشتراك في:
الرسائل
(
Atom
)